المطران إلياس عودة… البحّار الذي يواجه الريح

مدة القراءة 5 د


المطران إلياس عودة دائم الابتسامة. لكنّها هذه الأيام ابتسامة مجبولة بالأسى. كأنّه يخبّئ دمعته خلف الأيقونات البيزنطية المعلّقة في صالون المطرانية والتي يبدو أنّها نجت من انفجار 4 آب بأعجوبة، وإن جرح الزجاج بعضها.

متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس هو أيضاً أحد الناجين من الانفجار. عند السادسة والدقيقة السابعة عشيّة ذاك اليوم الرهيب كان المطران عودة في طريقه إلى كنيسة مار جاورجيوس وسط العاصمة بيروت حيث كان سيرأس صلاة تساعية السيّدة العذراء. لكنّ الانفجار غيّر مواعيده وقطع عليه الطريق عند تقاطع جريدة “النهار”. كأنّه زلزال، يروي لزوّاره: “في لحظة ضرب عصف سيارتنا، فكادت تنقلب بعدما ارتجّت ارتجاجات قويّة. ثمّ وجدنا أنفسنا بين سيارات هائمة لا تعرف وجهتها، وأشخاص يركضون ويصرخون، وأصوات غريبة. كلّ ذلك في ثوان. قفلنا عائدين إلى المطرانية مصدومين ننفض عن ثيابنا الزجاج ونسأل عمّا حصل. وصلنا فوجدنا أنّ الانفجار هنا أيضاً. صراخ وأصوات غريبة. فّتشنا عن مكان نجلس فيه. طلبت من الشمّاس أن يتفقّد غرفتي. عبثاً. المكان لم يعد صالحاً للسكن ولو لليلة واحدة”.

هجّر الانفجار المطران من بيروت، كما هجّر الآلاف، دمّر بيته كما دمّر بيوت الآلاف. كان شبيه رعيته الثكلى، فما أصابها أصابه.

متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس هو أيضاً أحد الناجين من الانفجار. عند السادسة والدقيقة السابعة عشيّة ذاك اليوم الرهيب كان المطران عودة في طريقه إلى كنيسة مار جاورجيوس وسط العاصمة بيروت حيث كان سيرأس صلاة تساعية السيّدة العذراء

في ذلك المساء المأسوي حَمل المتروبوليت عصاه وذهب للمبيت عند أنسبائه في كسروان. كلّ صباح كان يقصد المطرانية ويمكث فيها حتّى العشيّة: بدأ سفر الخروج من “4 آب”، لكن من أين البداية، ودار المطرانية كما مؤسساتها التربوية والاستشفائية كلّها طالها الدمار الجزئي أو الكلّي: مستشفى مار جاورجيوس الجامعي، ثانوية الثلاثة أقمار التراثية: “المدرسة التاريخية تهدّمت. لم يبق منها شيء”، يقول بحسرة.

في ظلّ هذه النكبة البيروتية يأخذ المطران محدثّيه إلى الشمال. إلى منشئه. كأنّه بذلك يقابل واقعين: واقع لبنان القديم الذي عاشه بين أنفه بلدته، وطرابلس حيث درس في “الأميركان”، وبيروت حيث أكمل دروسه في “الجامعة الأميركية”، وواقع لبنان اليوم المفلس والمدمّرة نصف عاصمته، والمفتوح على صراعات الشرق والغرب.

فالمطران ابن البحر وقدّ علّمه الحَذر. حذر الصيّادين من الريح. لذلك تراه يتجنّب الدخول في تفاصيل القضايا وأسماء أشخاصها، يبقي كلامه في مستوى المبدئيات السياسية لكنّه يوصل رسالته… يقول: “أنا لا أجري مقابلات سياسية ولا أتكلّم في السياسة إلّا في الكنيسة”. فهناك صوته العالي أعلى، كأنّه في بريّة يوحنا المعمدان. 

يخبر عن تربية والده له، وعن أصدقاء والده في أنفه وطرابلس، عن مناقبيتهم واحترامهم. يروي عن مدرسته في الفيحاء حيث كانوا يدرسون مسلمين ومسيحيين، ويحضرون معاً صفّ التعليم الديني بحرية. وكلّ ذلك ليقابل لبنان الذي كان، بلبنان الذي صار.

ومن الشمال يجول خاطره بين البلدان التي زارها. في اليونان حيث درس لأربع سنوات. يخبر كيف أنّ اليونانيين لا يقدّمون ولاءً على الولاء لوطنهم. يروي قصة الجنود اليونانيين الـ 300 الذين واجهوا زحفاً فارسياً وأبوا أن يتراجعوا حتّى ماتوا جميعاً. يقول: “في لبنان للأسف ليس لدينا وطن ومواطنة، لأنّ كثيرين منّا يستبدلون ولاءهم لوطنهم بولاءات خارجية”.

يخبر عن تربية والده له، وعن أصدقاء والده في أنفه وطرابلس، عن مناقبيتهم واحترامهم. يروي عن مدرسته في الفيحاء حيث كانوا يدرسون مسلمين ومسيحيين، ويحضرون معاً صفّ التعليم الديني بحرية. وكلّ ذلك ليقابل لبنان الذي كان، بلبنان الذي صار

ثمّ الولايات المتحدة التي دَرس فيها أيضاً وخيّر البقاء فيها، لكنّه اختار الرجوع إلى لبنان. هناك غادر أحد زملائه الصفّ مرّة بحجة أنّ والده يريد سيّارته. استغرب المطران ذلك، وقارن تصرّف الوالد الأميركي بتصرّف والده: “هل كان والدي ليقطع عليّ دراستي لسبب يخصّه؟ أبداً”.

من الولايات المتحدة يعرّج على البرازيل، حيث قالوا له اذهب وانظر إلى جمال شاطئ الريو الذي لا ينافسه شاطئ في العالم. ذهب ولكنّه عاد بانطباع أنّ الشاطئ اللبناني بتنوّع طبيعته بين صخرية ورملية أجمل من الريو… “لبنان أجمل البلدان لكنّهم خربّوه”، يقول.

إقرأ أيضاً: طرابلس مدينة المطارنة الأربعة تفرح بمطرانها الجديد

على وقع أصوات الترميم، يعود المتروبيليت إلى رعيته. نسأله عن “إعادة الاعمار”، فيقول إنّ كلّ شخص يرمّم بيته، وهناك مساعدات لكنّها لا تكفي الجميع. هنا يتحدّث عن السماسرة الذين جالوا في بعض الأحياء يعرضون على أهلها بيع منازلهم خصوصاً التراثية منها: “عرفنا انتماءات هؤلاء، لكن الحمد لله، لم يتمكّنوا من تنفيذ غايتهم، لكنّ الخوف موجود دائماً لأنّ غالبية الناس منهكون وفقراء وضَعُفَ إيمانهم بالبلد، وهذا قد يدفعهم لببيع منازلهم والرحيل”… “لكن هل يبيعون منازل آبائهم؟”، يسأل المطران بشيء من الحيرة، لكنّه يعود ويؤكّد تصميمه على الصمود ومواجهة الريح العاتية… مثل بحّارة أنفه!

مواضيع ذات صلة

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…