تذمّر في قيادة الجيش. ثم في رئاسة الحكومة العسكرية. ثم في المنفى. ليعود ويتذمّر في المعارضة. ثم في تولّي السلطة المباشرة على مدى سنوات طوال. وها هو الآن يتذمر أيضًا وقد صار رأس الدولة ورئيسها. لا شيء يتقنه ميشال عون سوى التذمّر. ولا شيء يُقدّمه سوى النحيب الممزوج بالروايات عينها. حتى استحالت صورته مرادفة للأزمات والانهيارات والشؤم، منذ اواخر الثمانينيات وحتى يومنا هذا، ما التصق اسم هذا الرجل بزمن أو بمرحلة إلا وانتهى هذا الالتصاق بكارثة أو بمجزرة.
ما هو مشروع ميشال عون؟ ما عدا التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي أصبح شعار “العهد البائد”. صحيح أنّ هذا التدقيق يكشف الكثير من الوقائع الملّح معرفتها ولكنّها كلها من الماضي ولا تصنع المستقبل الذي نحتاجه جميعاً.
ما لم يتحقق خلال أربع سنوات لن يتحقق في سنتين من الخراب الآتي.
لا شيء يتقنه ميشال عون سوى التذمّر. ولا شيء يُقدّمه سوى النحيب الممزوج بالروايات عينها. حتى استحالت صورته مرادفة للأزمات والانهيارات والشؤم، منذ اواخر الثمانينيات وحتى يومنا هذا
نعود إلى السؤال: ما هي أفكاره؟ ليوّضح لنا أحدٌ في هذا العالم ما نعجز فعلاً عن فهمه أو استيعابه. نريد أن نعرف حقًا ماذا يريد هذا الرجل؟ ماذا في حوزته؟ هل من إنجاز واحد؟ فكرة واحدة؟ ابتكار واحد؟ حلّ واحد؟ هل من شيء يتقنه سوى التذمّر المجبول بالشعبويات والعصبيات والعناد؟
صدّع رؤوسنا بروايته الممجوجة عن حقبة مظلمة امتدّت على مدى ثلاثين عامًا. وهو لا يشير قطعًا إلى وصاية النظام السوري الذي عاد وارتصف إلى جانبه في تحالف الأقليات، بل يصوّب بوضوح وحقد إلى رفيق الحريري الذي ينام في ضريحه منذ العام 2005، وإلى سياساته المالية والاقتصادية والاجتماعية. ولو كان لنا أن نكون منصفين للحقيقة وللتاريخ، فإنّها بلا منازع واحدة من أزهى المراحل التي عاشها لبنان منذ فؤاد شهاب، ذاك اللواء الأمير الذي ترّفع وارتفع، ثم أنجز وأبدع، بعيدًا من التذمّر والعناد والشعبويات المريضة.
مضت أربع سنوات على رئاسة ميشال عون. اختبرنا فيها كلّ أشكال المهانة والهوان. من أوضاعنا الاقتصادية والمالية التي لم نشهد مثيلاً لها منذ إعلان لبنان الكبير، إلى علاقاتنا الخارجية التي تشهد أسوأ مراحلها على الإطلاق، حيث استحال لبنان بلدًا شبه معزول عن العالم، بل وفي اشتباك وتوتر دائم مع محيطه وأشقائه، بعد أن ظلّ لعقود طويلة صلة الوصل بين الشرق والغرب، ونقطة التلاقي والحوار ضمن حاضنته العربية وهويته المميّزة ورسالته العابرة للجغرافيا والخرائط. ولم يكن ينقص هذا العهد البائد إلا انفجار هائل بحجم قنبلة نووية يودي بثلث بيروت، ويدمّر واجهتها ومرفأها وحضورها الآسر على ناصية المتوسط.
مضت أربع سنوات على رئاسة ميشال عون. اختبرنا فيها كلّ أشكال المهانة والهوان. من أوضاعنا الاقتصادية والمالية التي لم نشهد مثيلاً لها منذ إعلان لبنان الكبير، إلى علاقاتنا الخارجية التي تشهد أسوأ مراحلها على الإطلاق
بالأمس أطلّ ميشال عون في خطاب الاستقلال ليحدّثنا باللغة نفسها، تمامًا كما لو أنه ناشطٌ اجتماعي غير معنيّ بكل ما تشهده البلاد من انهيارات كارثية، وهي انهيارات تزامنت تمامًا مع وصوله إلى رئاسة الجمهورية، ولو فنّدنا الخطاب بتفاصيله، لأصابتنا الصدمة والذهول أمام هذه الحالة المستفزّة من التذمّر والإنكار والإصرار على الرواية نفسها، حتّى إزاء ملفات واضحة ومعروفة للقاصي والداني، لا سيما ما يتعلّق منها بالشعارات الرنّانة حول محاربة الفساد، والتي لم تُحقق حتى الآن أيّ خرق ملموس إلا ضمن مسار الكيديات السياسية، فيما يتعرّض صهره ورئيس تياره ووريثه السياسي لحزمة عقوبات دولية غير مسبوقة، استنادًا إلى فساده المستشري في إدارات الدولة وفي تعيين الأزلام والمحسوبيات. ولم يحدث في تاريخ لبنان أن خرجت سفيرة دولة كبرى بحجم السفيرة الأميركية لتؤكد بأنّ العقوبات تستند إلى أدلة قاطعة تتعلّق بالفساد والتورّط بنهب الدولة والمال العام.
الأكثر إثارة للبكاء والضحك في خطاب الاستقلال، هو الحديث عن القضاء المكبّل بالسياسة وهيمنة النافذين، وكأن الرئيس قد نسي أو تناسى بأنه عرقل واحدة من أهمّ التشكيلات القضائية في تاريخ لبنان، بل وساهم على نحوٍ غير مسبوق في إسقاط مبدأ استقلالية القضاء بالضربة القاضية، عبر ردّ مرسوم التشكيلات الذي أنجزه واحدٌ من أنزه القضاة وأكثرهم كفاءة واستقلالية، وذلك على خلفية استبعاد بعض المحسوبين عليه، وعلى رأسهم القاضية غادة عون.
بدا خطاب الاستقلال بعد مرور ثلثي ولاية ميشال عون وكأنّه خطاب القسم. هو يعد اللبنانيين بالإنجاز والإصلاح والتغيير. ويخبرهم أنّ لبنان بات أسير منظومة سياسية فاسدة، وهو قطعًا خارجها، رغم مشاركته الوازنة والمؤثرة في كلّ الحكومات التي تشكّلت عقب اتفاق الدوحة، وهيمنته وصهره على وزارات أساسية لأكثر من عشر سنوات، وها هي الآن غارقة في العشوائية والمحسوبية والفساد.
إقرأ أيضاً: أوقفوا هذيانكم.. الرئيس عون لن يستقيل
أقلّ ما يمكن أن نطلبه من ميشال عون هو الصمت. أن يصمت وهو في شتاء العمر، بدل التضليل والتذمّر والإصرار العبثي على معزوفة بلهاء ما عادت تنطلي على أحد، وعلى شعارات فارغة من أيّ مصداقية أو مضمون. ولو كان فعلاً بحجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقه، لبادر فورًا إلى الاستقالة، لأنّ لبنان الذي صمد على مدى قرون عصيبة، بات مهدّدًا بالاختفاء في عهده، على ما قال وزير الخارجية الفرنسية في تصريح شديد الدلالة وبالغ الفظاعة والرعب.