لا أحد يدري ماذا تنتظر القوى السياسية لإعادة تفعيل اتصالات التأليف. أو بالأحرى، لا تعرف المكوّنات الحكومية، التي صارت معروفة، على ماذا يعوّل رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري ليعيد الحياة إلى أسلاك اتصالاته التي تعطّلت منذ أكثر من أربع وعشرين ساعة. أهو تدخّل فرنسي يعيد إحياء مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون؟ أم هو الوجع الناجم عن عضّ الأصابع واتهامات العرقلة؟
يتعامل الجميع مع ملفّ التأليف على أنّ عقده محلية بامتياز ناتجة أولاً عن الوعود التي أغدقها الحريري على مُكلّفيه لضمان تسميته، وثانياً عن شراهة القوى السياسية لاعتقادهم أنّ هذه الحكومة هي آخر حكومات عهد ميشال عون. لكن مجرّد دخول جو بايدن البيت الأبيض، قد يعني أنّ قوى الثامن من آذار قد تستعدّ لمرحلة التخفيف من حدّة الضغوطات الأميركية، لتواجه حقبة أقلّ صعوبة وقساوة، ما قد يؤدّي بالنتيجة إلى إبطاء الحراك الحكومي.
لكن قبل أن يدلي الأميركيون بأصواتهم، كانت القوى اللبنانية تراقب رئيس الحكومة المكلّف وهو “يستقتل” في سبيل وضع التكليف في جيبه، ما اضطره على سبيل المثال لا الحصر إلى طلب ودّ الحزب السوري القومي الاجتماعي مقابل وعد بإجلاسه إلى طاولته الحكومية، كما الالتزام المسبق مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بمنحه حقيبتين مقابل عودته إلى بيت الطاعة الحكومي.
ولهذا، يبدو أنّ شركاءه الافتراضيين يتعاملون معه على قاعدة دفعه إلى مزيد من التنازلات. الكلّ مقتنع أنّ الحريري يريد العودة إلى السراي، ولو أنّه بدّل في استراتيجية تعاطيه، أقلّه في الشكل، لكن في المضمون، “كله عند العرب صابون”… وثمّة طريق واحد لبلوغ مطحنة الحكومة، ألا وهو إرضاء كلّ من سيشاركونه مهمته المستحيلة.
يتعامل الجميع مع ملفّ التأليف على أنّ عقده محلية بامتياز ناتجة أولاً عن الوعود التي أغدقها الحريري على مُكلّفيه لضمان تسميته، وثانياً عن شراهة القوى السياسية لاعتقادهم أنّ هذه الحكومة هي آخر حكومات عهد ميشال عون
التيار الوطني الحرّ واحد من هذه القوى التي تحاول استثمار جنوح الحريري للعودة إلى السلطة، وقد بات جبران باسيل متيقناً أنّ الحكومة العتيدة ستكون آخر حكومات العهد، ولذا يحاول تحصيل أكبر قدر من المكاسب قبل أن يضع رئيس الجمهورية توقيعه على مراسيم التأليف.
في المقابل، يعي الحريري أنّ عهد ميشال عون بات على المحكّ. الانفجار بات وشيكاً إن لم نقل قد حصل، وها هي تداعياته تظهر شيئاً فشيئاً، ولذا، فإنّ الفريق العوني وعلى رأسه جبران باسيل، مرغم لا بطل في تدوير الزوايا لإنقاذ ما تبقّى من العهد. وهذا ما تقصّد الحريري قوله في أكثر من مناسبة سواء أمام “تكتل لبنان القوي” بحضور باسيل أو أمام رئيس الجمهورية. يعرف جيداً أنّ تبادل التنازلات هو ممرّ إلزامي لا مفرّ منه.
بهذا المعنى، تُفهم لعبة التشاطر التي يمارسها الفريقان سواء من خلال بثّ أجواء إيجابية غير دقيقة عن التأليف لينفضا أيديهم من تهمة التعطيل والعرقلة، أو من خلال الدفع استطراداً لتقديم المزيد من التنازلات.
فعلياً، حاول الحريري في بداية رحلته تكريس مبدأ المداورة بعد تثبيت وزارة المالية عند الثنائي الشيعي، لتكون على الشكل الآتي: يتخلّى “المستقبل” عن الداخلية والاتصالات التي خصّها بفريقه، ويجيّرها إلى رئيس الجمهورية ومعه “التيار الوطني الحرّ” مقابل حصوله على حقيبة الخارجية ومعها الطاقة. بالتوازي، تذهب حقيبة الصحّة إلى الحزب التقدمي الاشتراكي على أن يتولّى “حزب الله” حقيبة الأشغال مقابل حصول المردة على حقيبة التربية.
يعي الحريري أنّ عهد ميشال عون بات على المحكّ. الانفجار بات وشيكاً إن لم نقل قد حصل، وها هي تداعياته تظهر شيئاً فشيئاً، ولذا، فإنّ الفريق العوني وعلى رأسه جبران باسيل، مرغم لا بطل في تدوير الزوايا لإنقاذ ما تبقّى من العهد
اللبنانيون جميعأً باتوا مقتنعين أنّ كلّ هذا اللفّ والدوران على الحقائب يستهدف بشكل أساسي إخراج حقيبة الطاقة من تحت جناحي باسيل، فيما الأخير مستعدّ للتخلّي عن كلّ الحقائب إلا هذه، حتى لو بادر إلى قول العكس. حاول الحريري اقتراح حلّ وسطي من خلال تولّي وزير أرمني الحقيبة يمكن أن يكون خطّ التقاء بين مثلث التيار – المستقبل – الطاشناق، خصوصاً بعدما عادت المياه إلى مجاريها بين بيت الوسط وبرج حمود، لكنّ باسيل رفض العرض. ولهذا يسود اعتقاد أنّه لحظة حسم مصير هذه الحقيبة، تتذلّل بقية العقد بـ”شربة مي”. أما قبل هذه الخطوة، فيمكن القول إنّنا لا نزال في المربع الأول.
إقرأ أيضاً: الحكومة في الثلاجة.. وترشيحات “الطاقة” تزيد الطين بلّة
لكن طالما أنّ هذه العقدة عصيّة على الكلّ، سيكون من الصعب الانتقال إلى المربعات الأخرى التي تنتظر رئيس الحكومة كي ينهي مفاوضاته الشاقة مع رئيس الجمهورية، ومن خلفه جبران باسيل.
جنبلاط على سبيل المثال، لا يزال يوجّه إنذاراته، وهو المستاء مما يتسرّب إلى مسامعه عن عدم قدرة الحريري على الإيفاء بتعهّداته، لكنه ينتظر أن يرنّ هاتفه ويكون رئيس الحكومة على المقلب الآخر يبلغه قراره النهائي. أما قبل ذلك، فلن ينسف الجسور بينه وبين بيت الوسط على الرغم من انزعاجه مما آلت إليه أمور التأليف.