حتى كتابة هذا التقرير، لم تكن “معمعة” الانتخابات الرئاسية الأميركية قد انتهت بعد، بين إعلان الرئيس دونالد ترامب فوزه بوقت مبكر، ومن ثمّ تشكيكه بالنتائج القادمة من ولايتي ويسكونسن وميشيغين، والحديث عن إعادة فرز للأصوات في ويسكونسن وبنسلفانيا. حتى صدور نتيجة “ملحمة تشرين الثاني 2020” بشكل واضح ومعرفة من سيكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأميركية لـ 4 سنوات مُقبلة، لابدّ من الإضاءة على بعض المُتغيّرات التي أرستها المعركة الأشدّ في تاريخ الانتخابات الرئاسية الحديثة للدولة الأقوى في العالم.
فلوريدا لم تعد الحاسمة؟!
منذ سبعينات القرن الماضي، رُسّخ لدى المراقبين نقطة ثابتة باتت تُشكّل محورًا مهمًّا في أيّ معركة رئاسية تشهدها الولايات المتحدة، ألا وهي: “من يحسم المعركة في ولاية فلوريدا يدخل البيت الأبيض لـ4 سنوات”، وفي المعارك الرئاسية القريبة كانت هذه المعادلة من “المُجرّبات” التي لا شكّ بصحتها، أقلّه على سبيل المثال منذ ولايتي بيل كلينتون وولايتي جورج بوش الابن وخلفه باراك أوباما وصولًا إلى ولاية دونالد ترامب الأولى.
ففي الانتخابات التي أجريت أمس الأوّل، وعلى عكس كلّ التوقعات استطاع الرئيس دونالد ترامب أن يُفجّر مفاجأة لم تكن في الحسبان، إذ انتزع أصوات ولاية فلوريدا المتأرجحة والتي يبلغ مجموعها 29 في المجمع الانتخابي الرئاسي بفارق 3 نقاط (أكثر من 350 ألف صوت) عن منافسه جو بايدن، وبدأ معها الكلام عن أنّ ترامب يتجه لحكم الولايات المتحدة لولاية ثانية بعد حسمه معركة فلوريدا باكرًا في سباق العام 2020، بل إنّ ترامب استطاع أن يُسجّل ارتفاعًا في النسبة التي نالها مقارنة بنتيجة عام 2016 (49%) مقابل 51.2% لهذا العام. كما وسجّلت نتائج ترامب في الولاية رقمًا لافتًا لدى الأميركيين من أصول لاتينية إذ استطاع أن ينال 47% من مجموع الناخبين الذين صوّتوا منهم، وهذا الرقم ليس سهلًا أن يناله الشّخص المتهم بالعنصرية ومناصرته للعرق الأبيض ومعاداته للمهاجرين وعمله على بناء سورٍ على الحدود مع المكسيك لمنع تدفّق المهاجرين من أميركا اللاتينية للبلاد.
صوت جورج فلويد لا يزال حاضرًا بقوّة!
الأرقام الأوّلية لنتائج الانتخابات الأميركية أثبتت “كره الناخبين السّود” للرئيس دونالد ترامب، والذي انخفضت شعبيته في أوساط الأميركيين المتحدّرين من أصول أفريقية بعد حادثة مقتل المواطن جورج فلويد على أيدي الشّرطة خنقًا أثناء اعتقاله، وما تبعها من أحداث عنف وتظاهرات متنقّلة بين الولايات اعتبرت ترامب رئيسًا عنصريًا لعدم إدانته ما حصل مع فلويد، بل إنّ البعض اتهم الرئيس الأميركي بمحاولة تبرير ما حصل.
في الانتخابات التي أجريت أمس الأوّل، وعلى عكس كلّ التوقعات استطاع الرئيس دونالد ترامب أن يُفجّر مفاجأة لم تكن في الحسبان، إذ انتزع أصوات ولاية فلوريدا المتأرجحة والتي يبلغ مجموعها 29 في المجمع الانتخابي الرئاسي بفارق 3 نقاط عن منافسه جو بايدن
القراءة الأولى للنتائج، بيّنت أنّ الأغلبية الساحقة من الناخبين السّود منحوا أصواتهم للمرشّح الديمقراطي جو بايدن، وذلك لسببين: الأوّل حادثة جورج فلويد، والثاني دعم الرئيس باراك أوباما لجو بايدن الذي عمل معه كنائب للرئيس لولايتين كأوّل رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية.
كراهية الأميركيين السّود الذين يُشكّلون 13% من مجموع سكّان الولايات المتحدة كانت عاملًا أساسيًا في التقدّم الذي أحرزه بايدن على ترامب في ولايات عدة، إذ نال بايدن 87% من أصواتهم على امتداد الولايات المتحدة، مقارنة بـ 12% لدونالد ترامب.
بايدن يفاجئ في أريزونا!
منذ عام 1996، لم يفز أيّ مرشّح رئاسي ديمقراطي في ولاية أريزونا والتي فاز فيها بيل كلينتون قبل 24 عامًا كأول مرشّح ديمقراطي يفوز بأصوات ناخبي الولاية من عام 1948. إلا أنّ انتخابات 2020 صدمت الديمقراطيين قبل الجمهوريين، ومعهم جميع المؤسسات المتخصّصة باستطلاع آراء الناخبين، وذلك بعد فوز جو بايدن بأصوات الولاية بفارق 100 ألف صوت عن منافسه الرئيس دونالد ترامب والذي استطاع عام 2016 أن يحسم المعركة في الولاية بسهولة تامة أمام هيلاري كلينتون.
ويشير المراقبون إلى أنّ سببين يكمنان وراء خسارة ترامب مبدئيًا في أريزونا “الجمهورية”، الأوّل تسجيل الولاية لأرقام عالية في إصابات فيروس كورونا (أكثر من 250 ألف إصابة و6000 وفاة)، والذي يُتهم الرئيس ترامب بالإهمال والتراخي في التعامل معه على حساب الاقتصاد. أمّا السبب الثاني، فيعود إلى تأثّر الناخبين الجمهوريين ببعض النّخب من الحزب الأحمر الذين أعلنوا عدم دعمهم وصول الرئيس دونالد ترامب لولاية ثانية مثل الرئيس السابق جورج بوش الابن، والسيناتور ميت رومني، والوزير السابق كولن باول.
زمن الاستطلاعات قد ولّى: المصداقية على المحك!
لطالما شكّلت استطلاعات الرّأي مرجعًا مهمًا لمعرفة من سيكون الرئيس المُقبل للولايات المتحدة، إلا أنّ الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين (2016 والحالية 2020) أثبتتا أنّ الاستطلاعات التي تُنشر بهذا الخصوص تفتقر إلى الدّقة في كثير من الأحيان، بل إنّها لا تصيب الواقع كما حصل عام 2016 بعد نشر أغلب الاستطلاعات أنّ هيلاري كلينتون ستتفوّق بسهولة على دونالد ترامب وتُصبح أوّل رئيسة للبلاد، غير أنّ الواقع كان مختلفًا تمامًا.
منذ عام 1996، لم يفز أيّ مرشّح رئاسي ديمقراطي في ولاية أريزونا والتي فاز فيها بيل كلينتون قبل 24 عامًا كأول مرشّح ديمقراطي يفوز بأصوات ناخبي الولاية من عام 1948
وفي هذا العام أيضًا، أثبتت نتائج الانتخابات أنّ الفارق يكون شاسعًا بين ما تبثّه وسائل الإعلام من استطلاعات رأي وبين الحقيقة، فعلى سبيل المثال، كانت أكثر الأرقام التي تُنشر قبل الانتخابات تشير إلى أنّ بايدن سيكون المُرشّح الفائز في ولاية فلوريدا، وأنّ ترامب هو من سيحسم المعركة في ولاية أريزونا، إلا أنّ الواقع أثبت العكس تمامًا. كما أنّ غالبية استطلاعات الرّأي أشارت إلى أنّ بايدن سيحسم السباق في ولاية بنسلفانيا، فكانت النتائج شبه النهائية تشير إلى أنّ ترامب هو من حسم الولاية، وغيرها الكثير من الأمثلة.
ترامب ليس شخصية معزولة!
بغضّ النظر عن النتيجة النهائية لمعركة الرئاسة 2020 في الولايات المتحدة، إلا أنّ نتائج التصويت في البلاد أكّدت أنّ الرئيس دونالد ترامب ليس شخصية معزولة غير محبوبة ومنبوذة من المجتمع الأميركي، إذ استطاع ترامب بالرغم من محاربة الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام له وبعض مواقفه العنصرية وتخلّي وجوه بارزة من الحزب الجمهوري عن تقديم الدعم له، أن يُثبت حضورًا قويًا ولافتًا في الأوساط الشعبية في أميركا، رغم تاريخه السياسي شبه الفارغ (قبل توليه الرئاسة) وتصريحاته الشعبوية والتي ينمّ بعضها عن جهل مُركّب، مُسجّلًا بذلك حالة استثنائية في المسيرة الرئاسية للولايات المتحدة الأميركية، بل إنّ ترامب استطاع اكتساب شعبية واسعة بسبب الإنجازات الاقتصادية التي حقّقها داخليًا لولا أزمة فيروس كورونا والذي كان له دورٌ فاعلٌ في تعطيل مسيرة ترامب (حتى كتابة هذا التقرير) نحو ولاية جديدة.
إقرأ أيضاً: ترامب: One-man Show President!
إلى حين اتضاح صورة الانتخابات ونتائجها بشكل رسمي، يبقى الحذر سيّد الموقف لمعرفة هوية الرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض ليُبنى على الشيء مقتضاه، فهل سيعود ترامب لـ 4 سنوات أخرى؟ أم سيدخل بايدن المكتب البيضاوي في تجديد لولاية ثالثة لإدارة باراك أوباما؟