“وصيّة” الراعي للحريري: المسيحيون ليسوا الحزبيين

مدة القراءة 7 د


في عظته الأحد الماضي، وضع البطريرك بشارة الراعي المسيحيين بين زمنين لبنانيين، الأوّل كان فيه رفيق الحريري، لكن كان زمن الوصاية السورية أيضاً. أمّا الزمن الثاني، فهو يجري الآن وعناوينه كثيرة من سعد الحريري إلى جبران باسيل، والعنوان الأبرز “حزب الله”.

في جملة واحدة، دفع البطريرك القارئ أو المستمع إلى الاستعادة التاريخية بين هذين الزمنين وإلى المقارنة بينهما، وفي الحالين إلى محاولة تعريف المسيحيين في ذلك الزمن والآن. إذ قال سيّد بكركي للحريري: “لا تضع وراء ظهرك المسيحيّين، تذكّر ما كان يردّد المغفور له والدك: البلد لا يمشي من دون المسيحيّين. هذا انتباه فطن وحكيم، فالمسيحيّون لا يساومون على لبنان لأنّه وطنهم الوحيد والأوحد، وضحّوا كثيراً في سبيل إيجاده وطناً للجميع، وما زالوا يضحّون”.

إقرأ أيضاً: إلى سعد الحريري: سِرّك في البطريرك الشجاع

أعاد تفجير المرفأ في 4 آب 2020 المسيحيين اللبنانيين إلى دائرة الضوء. كان عدد الضحايا المسيحيين والدمار الهائل الذي أصاب الشطر الشرقي للعاصمة بيروت الذي تقطنه غالبية مسيحية سببين كافيين لتحفيز معاينة أوضاع المسيحيين اللبنانيين لا السياسية وحسب، لكن الاجتماعية والاقتصادية أيضاً. كأنّهم كانوا يعيشون في الظلّ على الرغم من كلّ الضجيج الذي كانت ولا تزال تثيره أحزابهم، لاسيّما التيّار الوطني الحرّ.

تأخذ “وصية” الراعي للحريري كامل دلالاتها، لا للناحية السياسيّة المباشرة المتصلة بعملية تشكيل الحكومة وحسب. بل الأهمّ أنّ هذه “الوصيّة” تعبّر عن التحوّلات التي طرأت على المشهد المسيحي، وعن هواجس مسيحية جديدة قديمة من استغياب المسيحيين عن دائرة القرار السياسي

في الواقع، لم يكن تفجير المرفأ ليعيد الاهتمام بوضع المسيحيين اللبنانيين لو لم يكونوا أصلاً في أزمة أتت الفاجعة لتعلنها وتبرزها على نحوٍ واضح.

حتّى إنّ انتخاب ميشال عون كان بحدّ ذاته تعبيراً عن هذه الأزمة، ولم يكن تجاوزاً لها. والدليل أنّ العهد ما إن تزعزع بنيانه حتّى ظهرت علامات هذه الأزمة من جديد وأقوى ممّا كانت لاسيّما منذ 17 تشرين 2019.

لم يُنتخب ميشال عون إلّا بعد تعطيل للانتخابات الرئاسية دام زهاء سنتين ونصف السنة، تراجعت خلالها المؤشرات الإقتصادية في البلاد مبشّرة بالكارثة الآتية. فأن تربط شريحة مسيحية كبرى خلاصها بانتخاب ميشال عون رئيساً للبلاد من دون أن يكون في مقدورها تأمين وصوله إلّا بعد فراغ رئاسي طال أكثر من سنتين، فهذا ليس سوى تعبير عن أزمة هذه الشريحة التي ترهن مصيرها بانتخاب شخص محدّد إلى رئاسة الجمهورية أيّا تكن كلفة هذا الانتخاب.

هذا يفسّر ما يمكن تسميه الإحباط المسيحي الحاصل الآن. وهو إحباط أقوى من ذاك الذي ساد أيّام الوصاية السورية لأنّه راجعٌ إلى أمرين مترابطتين: الأول فشل العهد الذي كان موضع رهان مسيحي، والثاني الأزمة المالية هائلة التداعيات على الإرث الاقتصادي والثقافي للمسيحيين، ولاسيّما بالنسبة للقطاعين التربوي والاستشفائي.

وإذا أردنا أن نعاين التحوّلات، لاسيّما السياسيّة منها، في الأوساط المسيحية، لا بدّ من التوقّف عند ثلاث تواريخ أساسية هي: 17 تشرين 2019، و5 تموز 2020، و4 آب 2020؛ 17 تشرين لأنّ الانتفاضة شكّلت أوّل خروج مسيحي شعبي على المؤسسة السياسية المسيحية وإن كان خروجاً ملتبساً بالنظر إلى المشاركة الحزبية في الاحتجاجات خصوصاً في جبل لبنان، لكنّ ذلك لا ينفي التمرّد المسيحي على تلك المؤسسة. و5 تمّوز إذ كان نداء البطريرك بمثابة إعلان فشل المؤسسة المسيحية، فعادت بكركي لترسم سقفاً سياسياً يلزم الأحزاب أو بالحدّ الأدنى يربكها. وفي الحالين، فهو سقف يشكّل معطى أساسياً على الساحة المسيحية لا يمكن أيّ كان تجاوزه. و4 آب إذ شكّلت جريمة المرفأ صدمة فريدة من نوعها في الوعي المسيحي اللبناني منذ انتهاء الحرب الأهلية.

في هذا السيّاق تحديداً تأخذ “وصية” الراعي للحريري كامل دلالاتها، لا للناحية السياسيّة المباشرة المتصلة بعملية تشكيل الحكومة وحسب. باعتبار أنّ توجّه البطريرك للرئيس المكلّف بكلام كهذا يستبطن يقينه بضمور قدرة “العهد القوي” على ضمان حصّة المسيحيين في النظام. بل الأهمّ أنّ هذه “الوصيّة” تعبّر عن التحوّلات التي طرأت على المشهد المسيحي، وعن هواجس مسيحية جديدة قديمة من استغياب المسيحيين عن دائرة القرار السياسي.

والبطريرك لم يتوجّه إلى سعد الحريري بشخصه وحسب، إنّما بوصفه الرئيس المكلّف المرْضيّ عنه من “الثنائي الشيعي”، وإلّا لما كان قد كلّف تشكيل الحكومة. أي أنّ البطريرك يستعيد هاجس الاتفاق الإسلامي – الإسلامي لا بذاته، إنّما بكونه تعبيراً عن موازين القوى الحقيقية في البلاد، والتي تظهر المسيحيين في موقع متراجع.

لا بدّ من السؤال عمّن قصد الراعي بالمسيحيين عندما دعا الحريري ألّا يضعهم وراء ظهره، وأن يأخذ بكلام والده الراحل. هل قصد الأحزاب المسيحية وخصوصاً “التيار الوطني الحرّ”؟ حتماً لا

لقد حاولت المؤسسة السياسية المسيحية طيلة الفترة الماضية وبغطاء من بكركي أن تغيّر قواعد اللعبة التي أصبح ركناها الأساسيان طرفاها السنّي والشيعي، يلتقيان، فتسير العملية السياسية ويختلفان فتتعطّل، وذلك وفق موازين القوى بينهما، وقد رجحت كفتها بقوّة لمصلحة “حزب الله”. والمؤسسة المسيحية حائرة هنا، فإذا كان اتفاق الطرفين السني والشيعي لمصلحتها كما حصل عند انتخاب ميشال عون، فهو اتفاق ذو صفة وطنية. إمّا إذا استشعرت أنّ حصّتها في ايّ اتفاق بينهما مهدّدة رجعت إلى الحديث عن تهميشها واضطهادها. وذلك كلّه تأكيد على أنّ محاولات المسيحيين تعديل موازين القوى، لاسيّما عبر التحالف مع “حزب الله” – بخلاف أدبياتهم التاريخية لجهة رفض السلاح غير الشرعي في لبنان – ثمّ من خلال نظريتي “القانون الأرثوذكسي” و”الرئيس القوي”… ما أتت أكلها.

إذّاك لا يمكن فهم خطوات البطريرك منذ ندائه في الخامس من تموز سوى بوصفها محاولة جدّية لاستدراك تبعات السياسات المسيحية طيلة الفترة الماضية، عبر الدعوة إلى التمسّك بالدستور واتفاق الطائف كمرجعيتين محدّدتين لقواعد اللعبة عوض الاحتكام إلى موازين القوى المتأرجحة، والتي لم تنتج استقراراً سياسياً، بل آلت إلى كارثة اقتصادية ومالية.

 لذلك، لا بدّ من السؤال عمّن قصد الراعي بالمسيحيين عندما دعا الحريري ألّا يضعهم وراء ظهره، وأن يأخذ بكلام والده الراحل. هل قصد الأحزاب المسيحية وخصوصاً “التيار الوطني الحرّ”؟ حتماً لا، والبطريرك مدرك لحجم التحوّلات في الوسط المسيحي، لا بل إنّ كلامه منذ 5 تموز هو أحد أهمّ تعبيراتها. كما أنّ سيّد بكركي يعلم علم اليقين أنّ فقط 31.68%، من المسيحيين صوّتوا في الانتخابات النيابية الماضية، فأين أصوات المسيحيين الآخرين؟ والحال هذه، فإلى أيّ حدّ يمكن حصر المسيحيين بأحزابهم، ولاسيّما بعد 17 تشرين 2019؟ وإن كان تجاوز هذه الأحزاب مستحيلاً خصوصاً في عملية تشكيل الحكومة بمعاييرها الحاضرة.

من هنا، فإنّ “وصية” البطريرك للحريري، تتجاوز مسألة تأليف الحكومة. إنّها دعوة له لقراءة التحوّلات في الوسط المسيحي، كجزء أساسي من التحوّلات في لبنان. لا بل إنّ التحوّلات المسيحية ستكون هذه المرة محدّداً أساسياً للوجهة السياسية والاقتصادية والثقافية التي سيأخذها لبنان في المرحلة المقبلة، وسط الانهيار الشامل في لبنان – والذي تشير الأرقام والنسب إلى أنّه يدفع المسيحيين إلى الهجرة أكثر من سواهم في لبنان بعدما كان المسلمون يهاجرون أكثر في السنوات الماضية – وفي ظلّ تحولّات جيوسياسية كبيرة في المنطقة تدفع إلى التفكير في دور لبنان فيها بعدما فقد أو يكاد كلّ وظائفه!

مواضيع ذات صلة

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…

فرنجيّة وجنبلاط: هل لاحت “كلمة السّرّ” الرّئاسيّة دوليّاً؟

أعلن “اللقاءُ الديمقراطي” من دارة كليمنصو تبنّي ترشيح قائد الجيش جوزف عون لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الإعلان اختراق كبير حقّقه جنبلاط للبدء بفتح الطريق أمام…

قنوات مفتوحة بين قائد الجيش و”الثّنائيّ الشّيعيّ”

في آخر موقف رسمي من الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والفاضحة لقرار وقف إطلاق النار تكرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي “لفت نظر” لجنة المراقبة لوجوب وقف هذه…