مكنات لعدّ… ورق التواليت؟!

مدة القراءة 3 د


“وينك؟ بعدك بتعدّ مصاري على إيدك؟”، يسأل واحد من الإعلانات الكثيرة المنتشرة على جوانب الطرقات لآلات عدّ النقود. إعلان آخر ينبّه: “ما تفوت بالحيط… كفالتنا سنتين”. سنتان لعدّ النقود. تفكّر وأنت تمرّ بالإعلان: أيّ نقود؟ تبدو هذه الإعلانات مستفزّة حقاً. أحدها يحاول إغراءك بأنّ الآلة التي يبيعها معتمدة من المصارف والصرّافين. يعني آلة يستخدمها من يفترض أنّهم كانوا السبب في حرمانك من المال، الذي تحاول شركة في الوقت عينه أن تبيعك آلة لعدّه.

تسأل نفسك: هل أنا المستهدف من هذا الإعلان؟ من يمتلك المال الذي يحتاج إلى آلة لعدّه في بلاد مفلسة؟

في أحد مشاهد فيلم “ذئب وول ستريت” (إخراج مارتن سكورسيزي) يعطي جوردن (ليوناردو دي كابريو) لبراد (جون بيرنثال) قلماً، ويطلب إليه أن يبيعه إياه. “أقنعني بشرائه” يقول له. يجيب براد: “هلا أسديتني معروفاً وكتبت لي اسمك على الفوطة التي أمامك”؟ لبيع القلم خلق براد حاجة لدى جوردن لاستخدامه. هذا بالضبط ما تبدو عليه إعلانات مكنات عدّ النقود.

تفكّر وأنت تمرّ بالإعلان: أيّ نقود؟ تبدو هذه الإعلانات مستفزّة حقاً. أحدها يحاول إغراءك بأنّ الآلة التي يبيعها معتمدة من المصارف والصرّافين. يعني آلة يستخدمها من يفترض أنّهم كانوا السبب في حرمانك من المال

هناك من خلق حاجة إلى استخدامها، وأطلقها في السوق. كيف؟ عبر إغراق السوق بالليرة اللبنانية بعد انهيارها أمام الدولار. صارت المال وفيراً، ولكن من دون قيمة. ستحتاج، إذا كنت تتداول بالمال للتجارة، إلى عدّ مبالغ هائلة بالليرة اللبنانية لتقريشها بالدولار. الإعلان يستهدف التجار إذاً، وليس الموظفين، ولا العاطلين من العمل، ولا غالبية الناس الذين خسروا مدّخراتهم وحجزتها المصارف. للوهلة الأولى يبدو الأمر سوريالياً: آلات عدّ نقود في بلاد مفلسة. ثم يصير الأمر منطقياً مع قليل من التفكير. هذه الآلات لا يمكن أن تلقى رواجاً إلا في بلاد مفلسة، يتوقّع أن تصير العملة فيها أرخص من الورق المطبوعة عليه.

مرة أخبرني صديق صحافي عن زيارة قام بها برّاً إلى العراق في فترة الحصار الأميركي، وقال إنّه مع زملائه صرفوا ما يعادل أربعمئة دولار نالوا في مقابلها أكياساً من الدنانير العراقية الورقية. رزم كثيرة يصعب عدّها، وتحتاج فعلاً إلى مكنة. بعد عودتهم إلى لبنان، وضعوا السيارة التي استخدموها في الرحلة في محطة بنزين لغسلها. وجد عامل الغسيل في الصندوق كيساً مليئاً برزم الأموال. ظنّ الشاب أنه عثر على ثروة. وظن أنه سيأخذ إكرامية “حرزانة” لأنه وجد هذا الكيس مدفوناً في الصندوق الخلفي للسيارة. حينما أخبر صديقنا بوجوده، أجابه ببرود: “هذا لك كله. صحتين على قلبك”. “الثروة” التي عثر عليها عامل الغسيل لم تكن تساوي أكثر من خمس دولارات. هذا يشبه ما آلت إليه الأمور في فنزويلا مثلاً، حيث أصبح حرق الأوراق النقدية للتدفئة أرخص من شراء الفحم أو الحطب. حتى إنّ بعض الفنزوليين راحوا يستخدمون الأموال لمسح مؤخّراته بدل ورق التواليت.

إقرأ أيضاً: جبران باسيل: وصول القطار إلى المحطة الأخيرة!

بهذا المعنى، تنبئُنا هذه الإعلانات بمصير مشابه: بعد وقت ليس ببعيد، قد يحتاج كلّ مواطن إلى مكنة ليعدّ مدخوله الشهري (إن توفّر) والذي لا يتعدّى في كثير من الأحيان مئة دولار أميركي، لكنها قد تعادل عشرات الرزم من الأوراق النقدية اللبنانية. ومن يدري، قد نصل إلى يوم نستخدم فيه الأوراق النقدية من فئة المئة ألف ليرة، وعليها توقيع الحاكم، بدل ورق التواليت!

 

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…