من راهن على عدم ولادة الحكومة قبل الانتخابات الاميركية لم يخطئ تماماً، رغم مهلة الثلاثة أشهر تقريباً التي فصلت بين تقديم حكومة حسان دياب استقالتها في 10 آب الماضي وبين الاستحقاق الأميركي الأكثر سخونة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
مهلة كان يفترض في ظل حالة “الانهيار الشامل” التي تقارب الفوضى أن تحفزّ قوى الأمر الواقع على تأمين ولادة سريعة للحكومة، لكنّ هذا الأمر لم يحصل.
أكثر من ذلك، كل الإيجابيات التي بُني عليها في الأيام الماضية لصدور مراسيم “حكومة الإنقاذ” تبخّرت بفعل تمترُس سعد الحريري وميشال عون وجبران باسيل خلف سلّة شروطهم لولادة الحكومة، إضافة إلى غياب الوسيطين الفرنسيين باتريك دوريل وايمانويل بون عن السمع، وعدم ذهاب الرئيس نبيه بري في مسعاه أبعد من الحث على تجاوز العراقيل وتقديم التنازلات المتبادلة، ووقوف حزب الله في المنطقة الرمادية الأقرب إلى منطق “برنامج الحكومة أهمّ من الحقائب والأسماء والحصص”.
في الحسابات السياسية فالربط بين الانتخابات الأميركية وبين تشكيل الحكومة ليس واقعاً محتّماً، خصوصاً أنّ موقف الادارة الأميركية، إن لفَحته رياح التغيير في حال استلام فريق عمل جو بايدن زمام الحكم، يصعب أن يترجم “مناخه” قبل أشهر من انتقال الأمرة من الجمهوريين إلى الديموقراطيين. ولأنّ بين ضفتيّ الحزبين معادلة حديدية ثنائية الأبعاد تحكم السياسة الاميركية حيال لبنان مهما كانت هوية ساكن البيت الابيض: “أمن اسرائيل أولاً… وإضعاف حزب الله” مع اختلاف الاسلوب والآلية والتكتيك بين الرجلين.
كل الإيجابيات التي بُني عليها في الأيام الماضية لصدور مراسيم “حكومة الإنقاذ” تبخّرت بفعل تمترُس سعد الحريري وميشال عون وجبران باسيل خلف سلّة شروطهم لولادة الحكومة، إضافة إلى غياب الوسيطين الفرنسيين باتريك دوريل وايمانويل بون عن السمع
يقول البراغماتيون: “أمام هذه المعادلة تزول الفوارق بين ديفيد هيل وديفيد شينكر وإليزابيت ريتشارد ودوروثي شيا..”!
لكنّ العالمين ببواطن اللعبة السياسية سلّموا منذ البداية بوجود عقبتين أساسيتين قد تؤخّران ولادة الحكومة: الركون إلى مرشّح آخر من طينة حسان دياب أو مصطفى أديب سيكون مصيره السقوط والفشل أو “التفشيل”، أما عودة سعد الحريري فستكون بكلفة عالية حتّى تحت عباءة الراعي الفرنسي.
وأوّل الأثمان تسليم الحريري مجدداً بواقع سبق أن سمعه مباشرة من لسان “صديقه” نبيه بري: “رفضت انتخاب ميشال عون لأني كنت أعلم أني سأصوّت لرئيسين. لكن سريعاً عرفت أّنني كنت مخطئاً. عملياً صوّت النواب لرئيس واحد (قاصداً جبران باسيل)”!!
هو الواقع الذي يختصر المعضلة الحكومية اليوم: استئناف الحرب الباردة بين بعبدا وبيت الوسط في ظل صمت شيعي معبّر. حربٌ لا تخفّف من وهجها بيانات التفاؤل والايجابية والتقدّم والتأني. مع العلم أنّ هذه البيانات الصادرة عن رئاسة الجمهورية تعكس واقعاً لا يعرفه كثر: داخل القصر الجمهوري مواجهة من نوع آخر “مكتومة الصوت” بين المكتب الإعلامي برئاسة الممدّد له رفيق شلالا، وبين مستشاري ميشال عون على رأسهم سليم جريصاتي.
قد يفسّر هذا الأمر مسارعة الأخير مع انطلاقة مشاورات التأليف بين عون والرئيس المكلّف إلى نفي أي دور له في التسريبات التي عمّمت يومها مناخاً من الايجابيات المُفرطة وسلّمت بأنّ استثناء وزارة المال من المداورة متّفق عليه بين رئيس الجمهورية والحريري.
لكن أبعد من هذا التفصيل غير المرئي، وأبعد من عقد الحصص والحقائب والصراع المعلن حول التدقيق الجنائي الذي سيواكب انطلاقة حكومة الحريري، يستحيل فصل الأزمة الحكومية عن الحسابات الرئاسية الآتية بعد سنتين. باريس تعي ذلك، تماماً كما واشنطن وطهران، والعديد من أفرقاء الداخل الذين يتصرّفون على هذا الأساس.
أوّل الأثمان تسليم الحريري مجدداً بواقع سبق أن سمعه مباشرة من لسان “صديقه” نبيه بري: “رفضت انتخاب ميشال عون لأني كنت أعلم أني سأصوّت لرئيسين. لكن سريعاً عرفت أّنني كنت مخطئاً. عملياً صوّت النواب لرئيس واحد (قاصداً جبران باسيل)”
مؤخّراً لم يعد ميشال عون يخفي أمام زواره قلقه ممّا يتعرّض له باسيل من “حملات تشويه بهدف إقصائه”. يسلّم رئيس الجمهورية بوجود “محاولة اغتيال سياسية لعهده ولباسيل”، وقد كشف عن جزء منها في محطات سابقة ومن خلال الخطاب عالي السقف الذي أطلقه قبل ساعات من تكليف الحريري.
بعض المحيطين برئيس الجمهورية لم يتوانوا عن توجيه نصيحة له متخلّين عن سياسة القفازات: “حين تأتي الفرصة لك لإنقاذ عهدك وإنقاذ تاريخك الذي راكمته طوال مسيرتك السياسية. عليك أن تقتنصها. لا يمكنك أن تنقذ باسيل وعهدك في الوقت نفسه”!.
والمبادرة الفرنسية التي تشهد أقوى انتكاسة منذ الاعلان عنها في الأوّل من أيلول الماضي لا تتضّمن أي “ملحق” يمكن أن يستفاد منه لحصر أضرار المعركة الرئاسية المندلعة على ضفاف الورشة الاصلاحية بقيادة الحريري وفريقه “الاختصاصي”.
إقرأ أيضاً: بري والحزب يغطيان حكومة الـ 18… والطاقة “معلّقة”
تقول مرجعية سياسية بارزة: “بعكس كافة العهود السابقة بدأت معركة الرئاسة مع ميشال عون باكراً جداً بسبب خطأ “الجنرال” الذي نصّب باسيل وليًاٌ للعهد ورئيس ظل. والسنتان الفاصلتان عن موعد الاستحقاق الرئاسي ستكرّسان سياسة المحاور والاصطفافات حيال هذا الاستحقاق”.
تضيف المرجعية السياسية: “تجدر معاينة أداء حزب الله من الآن وصاعداً. وأول الكلام من الضاحية صمت تام حيال تحذير عون من آثار التكليف على التأليف ومشاريع الاصلاح، ولاحقاً عبر تغطية خيار الحكومة المصغّرة وعدم تبني شعار المعايير الموحّدة والميثاقية التي رفعها باسيل”.