من المفارقات التي يصعب استيعابها مهما تقادم الزمان، أن نرى كباراً عايشناهم، قد استحالوا أيقوناتٍ ورموزاً بعد أن غادرونا قسراً واستهدفتهم يد القتل غدراً، فتركوا فراغاً لا يُعوَّض وحزناً شخصياً وجماعياً لا يزول، بل يتجدّد كلما مرّ علينا استحقاق يستوجب حضورهم ويتطلّبُ عزائمهم. فنراهم يحضرون في القلوب والضمائر وتبكيهم العيون في المحاجر، لأنّهم كانوا نجوماً تضيء الطريق في زمن الظلم والظلام، وكانوا يستنبتون الأمل في صحراء اليأس القاحلة، ويثبِّـتون الأركان في هبوب العواصف والرياح..
إقرأ أيضاً: الكشف عن أسرار “الوحدة 121” التي اغتالت الحريري
من المؤلم جداً استعادة ذكرى تلك اللحظات الرهيبة، عندما وقع على أسماعنا نبأُ الاغتيال، وكان قد سبقه تواصلٌ وتواعد على اللقاء بعد العودة إلى لبنان، وهو لقاء لم يحصل أبداً.. لأنّ يد الإجرام أغلقت باب الاجتماع مع وسام الحسن، وطوت صفحة رجل نادر بكّر في الرحيل، تاركاً وراءه مجداً يليق بالشهداء وعطراً يرافق ذكرهم على مدى الزمان..
كان اللواء الشهيد وسام الحسن يستعذب استذكار أوشاج القرابة، ويحتفي بصلات الأرحام، وكان حديثه عن بتوراتيج والنخلة ودده.. يأخذ الكلام إلى مساحات أجمل من مقاربات الواقع القاسي، وهو الذي لم ينسَ يوماً أهله، الذين فاخروا به الناس ومحضوه محبّة بلا حدود، وهو بطلهم الذي بسط ظلّه على الوطن وألقى عليه حصانة الأمان.
وسام الحسن هو أحد هؤلاء الكبار الذين لم نكتشف حقيقة إنجازاتهم إلاّ بعد أن فقدناهم. ومن يعرف وساماً يدرك أيّ كارثة حلّت بلبنان بعد اغتيالٍ كان الأخطر بعد استهداف الشهيد رفيق الحريري، لأنّه كان قتلاً لمنظومة متكاملة من العلم والأمن والسياسة والإنسانية، متجسّدة في شخص رجل اسمه وسام الحسن.
هذا “الشقيق” الذي لم يغفل وسام الحسن عن مخطّطاته فكان له بالمرصاد، واصطاد “سفيره” للقتل والتفجير ميشال سماحة، في إنجاز غير مسبوق يكشف بهذا الوضوح تورّط النظام السوري في أعمال الإرهاب على الأراضي اللبنانية
لم يكن وسام ضابط أمن مقداماً وحسب، بل كان موسوعة في الفهم الدقيق الرابط بين الأمن والمجتمع، وبين الدين والتحوّلات ذات الطابع العقائدي. فكان خبيراً في مقاربة قضايا الإرهاب، مستوعباً عمق الحضارة الإسلامية وضرورة تنقيتها من أدران التشويه الفكري الذي تعرّضت له على مدى عقود طويلة، وكان في الوقت نفسه يعتبر أنّ كثيرين من الشبان المنخرطين في هذا المسار ضحايا التضليل، ويدعو إلى العمل على استنقاذهم من هذه الرمال المتحرّكة التي تصنعها الأنظمة الجائرة الحاكمة بالحديد والنار.
لطالما عمل وسام على تفكيك الألغام ومساعدة الذين طالتهم لوثة الإرهاب، وكانوا ضحية ظروف أوصلتهم إلى مواقع الشبهات، فكان يسعى لإيجاد المخارج الاجتماعية لهم في بيئاتهم، لحمايتهم من الضلالة، ودائماً على أساس روح القانون. وكان دائم التواصل مع المراجع القضائية للتسديد والتقريب، وصولاً إلى جوهر العدالة، فرفع الظلم عن المئات بصمت فاعل الخير الذي يأبى أن تعلم يمينه ما أنجزت يساره.
هذه الميزة هي أكثر ما يفتقده عادة الأمن في التعاطي مع قضايا “الإرهاب”، وهي التي يمكن أن تـُحدث الفارق بين الاستخدام الأعمى للقوة وبين الاستخدام الاستنسابي للقانون، وبين السعي الحقيقي للعدالة والعمل لتعطيل أسباب الجريمة ووأدها قبل وقوعها، فيما يُعرف بـ”الأمن الاستباقي”.
عرف وسام الحسن كيف يطوّع فائض القوة لدى “حزب الله” عن طريق كشف عشرات خلايا العمالة للعدو الإسرائيلي في صفوفه (36 شبكة)، فساهم في تحصين الحزب ضدّ مكامن الاختراق، من منطلق الحرص على مكوّن لبناني قاوم العدو، وليقول له في الوقت نفسه إنّه مهما بلغت قوّتك، فسوف تبقى محتاجاً إلى الدولة، التي هي ملاذ الجميع وحصنهم الذي يمنع عنهم العدوّ ويحميهم من أطماع “الشقيق”.
هذا “الشقيق” الذي لم يغفل وسام الحسن عن مخطّطاته فكان له بالمرصاد، واصطاد “سفيره” للقتل والتفجير ميشال سماحة، في إنجاز غير مسبوق يكشف بهذا الوضوح تورّط النظام السوري في أعمال الإرهاب على الأراضي اللبنانية. وهو أمر لم يغفره له النظامُ وحلفاؤه، وكان على الأرجح أحد أسبابٍ كثيرة أوصلت إلى الاغتيال الآثم.
لم يقارب وسام السياسة من منظور المنازعات التقليدية والمحاصصات والصراعات الدائمة بين الأفرقاء، لكنه كان يحمل هماً مختلفاً: كيف يمكن ضبط كلّ هذه التناقضات واتفاقات المصالح على إيقاع الحفاظ على الاستقرار، وعلى مصالح الناس. وهو كابد في هذا المجال الكثير من المصاعب، واصطدم بالقريب قبل البعيد، وإن كان قد احتفظ لنفسه بالكثير من الصمت على ممارساتٍ كان يرى أنّها ستفضي إلى ما انتهينا إليه، على المستوى الإسلامي والوطني على حدٍّ سواء.
لا يحتاج اللبنانيون إلى معرفة من اغتال الشهيد وسام الحسن، فالحقيقة يعرفها الناس عن ظهر قلب، لأنّ قاتل الشرفاء واحد، من حسن خالد إلى رفيق الحريري وصولاً إلى وسام
كان من أبرز ميزات وسام الحسن أنّ إنجازاته المخبّأة أكثر من إنجازاته المعلنة، وكلاهما شكّلا قاعدة الاستقرار في لبنان، بمواجهة العدوّ الصهيوني وشبكاته في العمق “المقاوم”، وفي ردع الإرهاب واختراقاته، وفي صدّ الاعتداءات من النظام السوري وعملائه، فكان الوحيد الذي تجرّأ على هذه المواجهة المثلّثة الأبعاد، بينما تخصّص بعض الأمن في مهماتٍ صبغتها الاصطفافات السياسية وأخضعتها لتداعي الصراعات التي أضعفت الأمن. بينما كان وسام أكبر من هذه المماحكات، وحمى قوى الأمن وشعبة المعلومات من الانزلاق إليها.
كان صخرة لبنانية صلبة في قلب الدولة، لبيئته وأهله، ولكلّ اللبنانيين، ومصدر أمانهم في وجه معادلات الإلغاء التي تعرّضوا لها، وهذا أكثر ما نفتقده في وسام الحسن اليوم.
لا يحتاج اللبنانيون إلى معرفة من اغتال الشهيد وسام الحسن، فالحقيقة يعرفها الناس عن ظهر قلب، لأنّ قاتل الشرفاء واحد، من حسن خالد إلى رفيق الحريري وصولاً إلى وسام. وما يوازي إعلان الحقيقة هو حفظ تضحيات الشهداء وعدم استغلالها في سلوكيات تصبّ في خدمة من قتلوهم، وتسهم في تصفية قضيتهم، وتـُنهي مظلوميتهم على أعتاب التنازلات، وتطمس ذكراهم للتخلّص من الثوابت والفضائل المرتبطة بسيرتهم ومسيرتهم.