بينما تتنفّس الكرة الأرضية على وقع فرز الأصوات في أحد أكثر الانتخابات الرئاسية إثارة للجدل في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، يبدو المشهد السياسي في لبنان مثيراً للغثيان: تناتش حصص داخل غرفة صغيرة في سفينة مسترخية بقعر البحر!
دول عظمى ترتّب ملفاتها على أساس الكباش التاريخي بين دونالد ترامب وجو بايدن، وتضع أمامها احتمالات “التفاعل” مع أميركا إذا دخلت في حرب أهلية وفلتان أمني، أو من دونهما… “عسكرة” الانتخابات والدخول في نزاع قضائي قد يمتدّ حتى 20 كانون الثاني تاريخ انتهاء ولاية ترامب لم يعد مجرّد سيناريو افتراضي. مع الرئيس الذي فقد صوابه على تويتر والمنابر كلّ شيء ممكن.
العالم كلّه يتراقص على نار المواجهات الكبرى والاستحقاقات الساخنة. يكفيه فزاعة “كوفيد 19” والاقتصاد العالمي الراكع أمامه. المواجهة العظمى بين الصين والولايات المتحدة. قطار التطبيع العربي مع إسرائيل السائر بسرعة زائدة في المنطقة. الخلافات الاقتصادية المستفحلة بين واشنطن وشركائها الأوروبيين. مصير الاتفاق النووي مع إيران بالصيغة المتفاهم عليها بين وزيري الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والأميركي السابق جون كيري، وتأثيره في ملفات المنطقة. الدور الروسي والمصير السوري في بقعة تصفية الحسابات وتنفيذ خرائط صفقة القرن. وماذا عن تركيا وأملها بعودة ترامب إلى البيت الأبيض…؟
دول عظمى ترتّب ملفاتها على أساس الكباش التاريخي بين دونالد ترامب وجو بايدن، وتضع أمامها احتمالات “التفاعل” مع أميركا إذا دخلت في حرب أهلية وفلتان أمني، أو من دونهما
براكين تنتظر من يهمدها أو يزيدها اشتعالاً. وفي لبنان تسليم طوعي باستحالة تثبيت تفاهمات الحدّ الأدنى بين زعماء “العشائر” للخروج من القعر. طلال أرسلان حردان، والحزب القومي مستنفر، وسليمان فرنجية لا يرضى إلا بحقيبتين، وجبران باسيل “إما معاييري أو لا حكومة”، والحريري معتكف عن زيارة القصر الجمهوري ولو ليس دائماً.
المبادرة الفرنسية وحدها لا تكفي. تحتاج إلى فرز صناديق آخر ولاية مغمورة في أميركا، ورشّة ملح رضى سعودي، وتطنيش إيراني، ودخول رجل الثلج فلاديمير بوتين على الخط، ورفع إيمانويل ماكرون أصبعه مجدّداً… فيما الوضع حالياً: عجزٌ داخلي بتواطؤ الجميع يقارب الجريمة الموصوفة بحقّ ملايين اللبنانيين بعنوان: الخنق حتى الموت.
للمرة الأولى في مسار تأليف الحكومات تتغيّر بورصة الحقائب على عدّ الساعات. لا شيء ثابتٌ سوى تكليف سعد الحريري تشكيل حكومة. وحدها المراسيم ستكشف مدى اختصاص أعضائها وتحرّرهم من الأمرة السياسية. وأيضأ تلك الحقيبة الشهيرة. حقيبة المال التي لن تتزحزح من الحضن الشيعي، تحديداً حضن الرئيس نبيه بري. ما عدا ذلك لا تعرف “حقيبة مَن بيد مَن” على مشارف ثلاثة أسابيع من تسمية سعد.
المبادرة الفرنسية وحدها لا تكفي. تحتاج إلى فرز صناديق آخر ولاية مغمورة في أميركا، ورشّة ملح رضى سعودي، وتطنيش إيراني، ودخول رجل الثلج فلاديمير بوتين على الخط، ورفع إيمانويل ماكرون أصبعه مجدّداً
لا ميشال عون في أفضل أحواله ولا سعد الحريري. الاثنان مأزومان، لكنهما “توفّقا” بثورة حَمت القصور، وبمجتمع مدني عاجز من أيّ مشروع موحّد واضح يصلح لإدارة مرحلة الإنقاذ. فكانت العودة إلى الجذور مع التركيبة السلطوية إياها “عون – بري – الحريري”، وثوار عادوا باكراً إلى منازلهم أو ضلّوا الطريق.. تخيّلوا “تلفزيون الثورة” يمجّد إنجازات وزير كالياس بو صعب!.
الرجلان في عجز كليّ محاصران بنظرية المؤامرة. مع ذلك، لا يضيرهما التخبيص وهدر الوقت الذي قد يكون الأغلى كلفة منذ التسعينيات. وآخر أخبار الحكومة لا تشي سوى بالمزيد من الفشل في تدوير الزوايا. لا يبدو الحريري في وارد “الكزدرة” أكثر بين بيت الوسط وبعبدا. يميل أكثر إلى خيار تقديم تشكيلة يرضى عنها عون ولا يحجزها في جاروره كما فعل سابقاً مع حسان دياب، لكن دون ذلك عقبات تتكاثر كالفطر. تحلّ في مكان فتتعقّد في مكان آخر.
إقرأ أيضاً: الحكومة بين “جو” باسيل وجو بايدن
لا يتعلّق الأمر فقط بواقع العودة إلى نقطة الصفر أو المربع الأول حكومياً. ثمّة واقع سوريالي يفرض نفسه. رئيس الجمهورية حَسَمها: “لن أمشي”. والحريري يقولها تمتمة: “لن أعتذر”. بري على مشارف النصف الثاني من الولاية النيابية السادسة يترك لمناصريه توصيف الواقع: “لا بديل عنه ولن يزيح”. ثلاثية مجرّبة ومستهلكة يفترض أن تقود عملية إصلاح غير مسبوقة، أضعف أعمدتها الحريري الذي جاهر صراحة: “إن فشلت سأترك الحياة السياسية”.
أيام أو أسابيع قليلة ستحسم مصير الرئيس المكلّف الباحث عن سقف حكومة تبقيه في دائرة الضوء والسلطة. وفي الوقت المستقطع لا تتوقّف جولات “حَلش الشعر” لتثبيت الحصص والأحجام، و”الثلث الذهبي”، والاستيلاء على الحقائب. ولا ضير في موت المزيد من اللبنانيين قهراً أو جوعاً أو ذلاً أمام أبواب المستشفيات والمصارف والسوبر ماركت…