كلّما “انزرك” نظام عربي، تكون إسرائيل حاضرة لفكّ عزلته. لعب حافظ الأسد هذه اللعبة في بداية التسعينات، حين تفاوض مع إسرائيل. يومها كان الظنّ أنّه يمكن الرهان على السلام الآتي إلى المنطقة، ليكون لبنان محور الشرق الجديد. وهكذا أُعيد بناء بيروت.
كذلك فعلها مؤخّراً بشّار الأسد عبر رامي مخلوف في بداية الثورة السورية، عام 2011، حين أعلن عبر “نيويورك تايمز” أنّ استقرار إسرائيل مرتبط باستقرار سوريا. واليوم يلعبها حزب الله، ومن ورائه رئيس الجمهورية. الأوّل ساعياً إلى وقف عمليات “التلحيم” في لبنان، والثاني إلى منع وصول سيف العقوبات إلى رقاب صهره جبران باسيل وأفراد عائلته.
إقرأ أيضاً: الحزب لعون: أنت تطبّع مع إسرائيل
في هذه الأثناء، أعادت مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل وضع لبنان على شاشة الرادار الأميركي. من رعاية الولايات المتحدة الأميركية إلى المفاوضات، وزيارة ديفيد شينكر إلى بيروت ولقاءاته مع المسؤولين السياسيين، إلى اتصال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو برئيس الجمهورية ميشال عون. هذا المسار كان يفترض أن يطلق في السنوات الأولى لعهد عون بناء على جوانب من التسوية الرئاسية. جرت محاولات عديدة أيام السلام والوئام بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحرّ لتقديم ما يلزم من تنازلات في سبيل الحصول على دعم دولي. لكن موقف حزب الله كان واضحاً برفض تسليم هذه الورقة لأيّ طرف.
كلّ هذه الظروف، تدفع إلى إعادة البحث في عملية تشكيل حكومة، خصوصاً أنّ الراغبين في الاستمرار بنظرية تلازم المسارين أو وحدة المسار والمصير بين سوريا ولبنان، ينظرون إلى التطوّرات التي يشهدها الملف السوري أيضاً على الصعيد الإسرائيلي
ما قبل انكسار العلاقة بين التيارين، استمرت المحاولات في استرداد الملف من كلّ طرف على حدة. حاول عون وباسيل مع حزب الله ولم ينجحا، وصولاً إلى اقتراح عون بإصدار مرسوم جمهوري يوقعه رئيسا الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية بعد رفض وزير الأشغال المعني مباشرة بمسألة الحدود البحرية والبرية التوقيع، يحدّد الحدود اللبنانية ويتمّ الذهاب به إلى الأمم المتحدة لتسجيله، فتنطلق المفاوضات على أساسه. رفض الحزب. الرئيس سعد الحريري حاول الإمساك بهذا الملف خلال ترؤسه الحكومة وبعد زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية، لكنه أيضاً لم ينجح. كان حزب الله يريد الإمساك بهذا الملف حصراً: المنطقة شيعية، والمسيطر عليها الثنائي شيعي، ولا يمكن لأحد أن يفاوض عنهما.
انطلاقة المفاوضات جاءت في توقيت مهم في ظلّ التحوّلات التي تمرّ بها المنطقة. وجاء بعد تشديد الضغوط الأميركية على حزب الله وعلى لبنان كله من خلفه، وعلى وقع أخطر أزمة اقتصادية وبنيوية يعيشها الكيان اللبناني. لحظة التحوّلات بدأت بمسار تطبيع بعض دول الخليج مع إسرائيل، في صورة واضحة حول اكتمال بوادر تحالف “خليجي – إسرائيلي” في المنطقة، سينعكس خسارة استراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي تعاني مع كلّ حلفائها من أزمات اقتصادية متتالية وخانقة.
التحوّل فرض على إيران تقديم تنازلات متعدّدة، أولها في ملف مفاوضات ترسيم الحدود، فيوازي هذا الحوار الذي سيتخذ طابعاً شيعياً مع الأميركيين والإسرائيليين، المفاوضات الخليجية الإسرائيلية. لم تعد إيران قادرة على الانتظار، ولا بدّ لها من توفير قنوات التواصل مع الولايات المتحدة. وفي حال بقي دونالد ترامب في البيت الأبيض، يكون التفاوض قد بدأ. أما في حال فاز بايدن، فستكون طهران في موقع أفضل، وحجزت موقعها.
كلّ هذه الظروف، تدفع إلى إعادة البحث في عملية تشكيل حكومة، خصوصاً أنّ الراغبين في الاستمرار بنظرية تلازم المسارين أو وحدة المسار والمصير بين سوريا ولبنان، ينظرون إلى التطوّرات التي يشهدها الملف السوري أيضاً على الصعيد الإسرائيلي. إذ تحوّلت إسرائيل إلى حبل النجاة الوحيد للنظام، بناء على نصائح روسية والمزيد من الضغوط الأميركية التي تعمل على الإفراج عن مواطنين أميركيين محتجزين لدى النظام منذ سنوات.
لن تكون مهمة الحكومة اقتصادية أو تقنية بحتة، إنما ترتبط بتحوّلات استراتيجية كبرى انسجاماً مع ما تشهده المنطقة، وكما يتمّ إنجاز التفاهمات العربية الخليجية مع إسرائيل، ستكون الضغوط في المرحلة المقبلة لالتحاق إيران بهذا المسار
كما سوريا، سيسلك لبنان مفاوضات الترسيم التي أصبحت محصورة بين طرفين: رئيس الجمهورية الذي يمثّل المسيحيين مثلاً، والثنائي الشيعي الذي أطلق “الإطار” عبر الرئيس نبيه برّي. وهذا “الثنائي” سيبقى ممسكاً بورقة إقرار أيّ اتفاق سيتمّ التوصّل إليه في مجلسي النواب والحكومة.
عملية الترسيم وإنجاز الاتفاق يحتاجان إلى حكومة. لذلك، فإنّ الحريري قرّر تقديم نفسه، باعتباره ممثّل السنّة، والقادر على تأمين غطاء سنّي ليكتمل ثالوث الرئاسات الثلاث، المسيحية والسنية والشيعية، لتأمين نصاب سياسي “وطني” للترسيم، والترسيم هو المقدّمة التقليدية للعودة إلى اتفاقية الهدنة، بدلاً من اتفاق تموز 2006، الذي ينصّ على “وقف الاعتداءات” ومن ثمّ الدخول في مفاوضات التطبيع. وهدفه ألا يترك الساحة للآخرين، خصوصاً أنّ هذه الحكومة ستكون حكومة الترسيم. فإمكانية تشكيلها ونجاحها وحصولها على المساعدات، ستكون مرتبطة أيضاً بما سيتحقّق على هذا الصعيد، وكلّ الملفات الأخرى مرتبطة به. لأنّ ملف الترسيم لن يكون منفصلاً عن إرساء الاستقرار في الجنوب، وإيجاد حلّ لملف الصواريخ الدقيقة العابرة للحدود.
لن تكون مهمة الحكومة اقتصادية أو تقنية بحتة، إنما ترتبط بتحوّلات استراتيجية كبرى انسجاماً مع ما تشهده المنطقة، وكما يتمّ إنجاز التفاهمات العربية الخليجية مع إسرائيل، ستكون الضغوط في المرحلة المقبلة لالتحاق إيران بهذا المسار. ولا مفرّ من مرجعية حكومية لبنانية سنيّة تواكب كلّ هذا المسار.
طريق السراي، هذه المرّة، يبدو أنّها تمرّ في تل أبيب.