تبرّر أوساط الرئيس المكلّف سعد الحريري مسار التفاوض غير المباشر مع الأحزاب السياسية لتأليف الحكومة بخلاف ما حكم تجربة مصطفى أديب من ضوابط قاسية بأن الأخير أتى من خارج النادي السياسي، وهو مجرّد من أيّ حيثية سياسية حتّى لو نال غطاء “الشيخ سعد”، وهذا ما أوجب ترؤسه لفريق عمل “خالي الدسم” السياسي بالكامل، ولا تشارك الأحزاب في اختيار أعضائه. أما تكليف الحريري، فيفرض التعاطي بواقعية وبراغماتية مع عملية التأليف تسمح بدخول الأحزاب على الخط “لكن من دون فرض إمرتها على الرئيس المكلّف وفريقه الوزاري”.
إقرأ أيضاً: الحريري- جعجع: من يعزل الآخر؟
أما تبرير العودة الى السلطة من دون ضوء أخضر من الشارع الذي خضع لإرادته، كما قال في 29 تشرين الأول العام الماضي، وقدّم استقالة حكومته استجابة له، فتقول الأوساط: “هذا الشارع فشل في إنتاج قيادة موحّدة وتقديم مشروع واضح لمواجهة المرحلة. تماماً كما فشلت تجربة حكومة بصيغة حسان دياب. فهل يُترك البلد للفوضى”؟
من هذه النافذة بدأ الحريري مشواره الصعب في اختيار فريق العمل الوزاري المولج تنفيذ المبادرة الفرنسية. أول الكلام حصل مع رئيس الجمهورية ميشال عون على قاعدة “تعاوننا قائم وثابت”، مع إصراره يومها على صيغة الـ 14 وزيراً جميعهم من الاختصاصيين. بادله عون بالمثل لناحية التأكيد على التعاون ومحاولة إصدار المراسيم الحكومية بسرعة قياسية بالنظر إلى خطورة الوضع المالي والاقتصادي من دون التطرّق إلى المطالب والشروط.
عند التكليف كان جزءًا من شوط التفاوض قد قطعه الحريري مع الثنائي الشيعي، ويتعلّق بتثبيت وزارة المال من حصة الطائفة الشيعية والاتفاق على جدول أعمال المرحلة خصوصاً لناحية ملاقاة مجلس النواب الحكومة بالتشريعات اللازمة
لكن عون تفاجأ، وفق المطلعين، بأول الاقتراحات من جانب الحريري، بمبادلة الداخلية بالخارجية. “عرضٌ مغرٍ” ما لبث أن اصطدم بواقع أكبر من الرئيسين. فأيّ تبادل على مستوى الحقائب السيادية كان يجب أن يأتي من ضمن “سلّة” متفق عليه وليس منفصلاً عن الحقائب الأساسية والخدماتية، ولذلك ارتفعت المتاريس السياسية والطائفية والمذهيية بسرعة قياسية بحيث إنّ التوافق من فوق، أي المداورة على مستوى الحقائب السيادية، لم ينسحب على تحت، خصوصاً على الحقائب الخلافية: الطاقة والاتصالات والعدل والاشغال والصحة والتربية.
وبتأكيد المطلعين، لم يتأخّر الحريري ليكتشف أنّ ثمن موافقته من جانب واحد على استثناء وزارة المال من المداورة كان “ثمنه” استثناء عون حقيبة الطاقة من المداورة السياسية والطائفية: “حين تكون المداورة شاملة تفضّلوا وخذوا الطاقة”. وعند هذا الحدّ لا تزال الحكومة تنازع لتولد مع جملة عقبات أخرى لا تقلّ تعقيداً.
عملياً، عند التكليف كان جزءًا من شوط التفاوض قد قطعه الحريري مع الثنائي الشيعي، ويتعلّق بتثبيت وزارة المال من حصة الطائفة الشيعية والاتفاق على جدول أعمال المرحلة خصوصاً لناحية ملاقاة مجلس النواب الحكومة بالتشريعات اللازمة. بدا ذلك بمثابة الحاجز المانع لمطالبة الحريري بصلاحيات استثنائية لحكومته، وهو الأمر المرفوض بالكامل من جانب أمل وحزب الله.
لكن لم يطل الوقت حتى بدأت عقد تأليف الحكومة التي خبرها الحريري في حكوماته الثلاث السابقة تحاصره. ورغم مناخ الثنائي الشيعي “المسهّل له والمتعاون”، كما سمع ذلك من الطرفين، كان حلفاء الحزب يرفعون السقف “حلفاؤنا أبلغونا ما في حكومة من دون وزير درزي محسوب علينا”.
أما على مقلب ميشال عون، فكان يصعب توقّع “تصفير” المشاكل مع سعد الحريري وتذويب السلبيات المتراكمة في سجلّ العلاقة بـ “لحظة تكليف” رغم الحرص المتبادل على تعميم الأجواء الايجابية. فلا شئ تغيّر في تقييم وموقف كلّ طرف تجاه الآخر باستثناء فرض الحريري نفسه، بعد مقاطعة دامت عاماً كاملاً، شريكاً مع رئيس الجمهورية في إدارة مرحلة الإنقاذ، وتسليم الطرفين بعدم امتلاكهما لترف المناورة والتصلّب في المواقف.
في سياق حماية “الذات” والحليف، لا يزال عون، بتأكيد المطلعين، يرفض صيغة الـ 18 وزيراً مستصعباً أن “يزعّل” حليفه في الجبل طلال أرسلان وأن يخلق نقمة كاثوليكية بوجهه
وحتى الآن يحاذر الحريري، وفق المعلومات، تقديم تشكيلة تستفزّ عون فيرفضها طالباً الرئيس المكلّف تعديلها، على قاعدة أنّ الأخذ والردّ في الأسماء والحقائب سيرتدّ سلباً على الحريري شخصياً، وعلى المهلة المعقولة المتاحة له لتأليف حكومته، وقد يكون لذلك انعكاسات مباشرة على بورصة الدولار والوضع المالي.
ولعلّ الاستنتاج الأكثر سلبية للحريري حتى الآن، هو تيقّنه بأن المنغمس في التفاصيل الحكومية الأصيل، هو جبران باسيل وليس رئيس الجمهورية، وهو يسعى لترجمة ورقة “وحدة المعايير” وفرض نفسه شريكاً أساسياً مع الحريري في التأليف من موقعه كأكبر كتلة نيابية.
لكن مصادر التيار الوطني الحرّ تنفي هذا الواقع قائلة: “كيف يمكن اعتبار مطالب المردة وأمل وحزب الله ووليد جنبلاط وطلال أرسلان والطاشناق أمراً عادياً في سياق التأليف. وحين تصل الأمور إلى باسيل يتمّ الحديث عن تدخل وفرض شروط”. وتوضح: “أقل الإيمان أن يوازن رئيس الجمهورية بين مطالب الكتل السياسية، فكيف إذا كان الحزب المعنيّ هو الذي انبثق منه عون وانتخب رئيساً للجمهورية”.
وفي سياق حماية “الذات” والحليف، لا يزال عون، بتأكيد المطلعين، يرفض صيغة الـ 18 وزيراً مستصعباً أن “يزعّل” حليفه في الجبل طلال أرسلان وأن يخلق نقمة كاثوليكية بوجهه. تقول أوساط التيار: “معركة تثبيت الحصة الدرزية والتمثيل الكاثوليكي التي تتأمّن في حكومة من 20 وزيراً، إذا لم يكن 22، حصلت أيام حسان دياب، وليست معركة موجّهة اليوم ضدّ الحريري”، متسائلة: “كيف يمكن تسليم اختصاصي في ملف معيّن حقيبتين بوجود 22 حقيبة لـ 18 وزيراً!؟”.
واقعٌ يجعل من المهلة التي وضعها بري سابقاً لولادة الحكومة خلال أربعة وخمسة أيام غير واقعية مع علم الحريري أنها رسالة بمعرض الضغط موجّهة لعون وليس له، كما أنها لا تتلاقى مع توجّه الأمين العام لحزب الله السيد حس نصرالله الذي دعا صراحة الى “عدم المبالغة في الايجابية”.
يحدث ذلك في ظل معطيات تحدّثت في الساعات الماضية عن تمايز في الموقف الاميركي حيال تأليف الحكومة متأثر برياح الانتخابات الرئاسية التي بلغت أوجها مع اقتراب موعد فرز النتائج ويعكسه التضارب في التوجهات بين وكيل وزارة الخارجية ديفيد هيل “المتساهل” والسفيرة الاميركية اليزابيت ريتشارد التي تمارس ضغوطاً على الحريري لمنع “تسرّب” أي وزير الى حكومته محسوب على حزب الله.