بابتسامة طفل لا تفارق وجهه، يُحدّثك بصرامة وثقة، ويطمئنك في آن واحد: “لا تقسيم. لا فيدرالية. لا حلّ غير دولة لبنان الكبير”.
الدكتور أنطوان مسرة، البيروتي القابع في بيروت لا يغادرها ولا تغادره. شجرة “الفتنة” بوردها الأصفر تزيّن مدخل منزله. والخشب الأوكراني الذي تتميّز به نوافذ منازل بيروت القديمة يفتخر به، مستذكراً كلّ تلك السنوات، وكيف كاد انفجار المرفأ أن يقضي عليها.
إقرأ أيضاً: السفير بوحبيب لـ “أساس”: نصرالله هو الرئيس الفعلي للبنان
يجلس أنطوان مسرّة في منزله بشارع عبد الوهاب الإنكليزي، بين كتبه ومراجع الدستور والقانون وعلم النفس والفلسفة. تُدرك وأنت تراقب تحرّكه من كتاب إلى كتاب، أنّ هذا الرجل مجبول بالطائف والدستور، ممسك بكلّ المفاصل والمحطات، مدرك إلى ما آلت إليه الأمور لأنه قادر على رصد البدايات، وأخطائنا فيها، وتماهينا بتلك الأخطاء حتّى نكاد نرسم تلك النهايات البائسة. ويقول: “بإعلان لبنان الكبير الرسمي ورَدَ في كلام الجنرال غورو إعلان دولة لبنان الكبير. وكلمة دولة في معظم الأحيان، ينساها اللبنانيون، ويقولون إعلان لبنان الكبير، مع العلم أنّه صدرت في اليوم نفسه 4 قرارات لتنظيم دولة لبنان الكبير. اليوم يوجد معضلة كبيرة بمفهوم “الدولة”: ما معنى دولة في لبنان؟
في كتاب “من أجل لبنان” الذي يعتبر نوعاً من وصية كمال جنبلاط، يقول: “أخشى المثقفين الصافين” أي الذين لا يملكون خبرة، ويتداولون في الشعارات والسجالات المتداولة في السوق
ندخل في سجالات وخلافات رديفة هرباً من سؤال: ما معنى دولة؟ ولا يعبّر هنا عن رأي أو موقف، بل بحسب المعايير الدولية وتاريخ البشرية، الدولة لها ما يسمّى بـ”الصفات الملكية” وهي أربعة:
1- الدولة تحتكر القوى المنظّمة.
2- الدولة تحتكر العلاقات الدبلوماسية.
3- الدولة هي التي تفرض الضرائب وتجبيها، وتنظّم العملة الوطنية، وهي تدير السياسات العامة (التربوية والاقتصادية والاجتماعية..).
بريأيه أنّنا اليوم في حالة دولتين وجيشين، وفي حالة دبلوماسيتين. دولة رسمية ودولة جانبية، جيش رسمي وجيش رديف. في كتابات أخيرة صادرة في الخارج عن الحدود والسيادة ورد اسم 3 دول اسموها “دولاً من ورق”، هي سوريا والصومال ولبنان. هذا هو الموضوع الأساسي.
الدكتور مسرة ولدى سؤاله: “هل نحن ذاهبون إلى انهيار” يجيب: “الموضوع تختلف عمّا يرد في كتابات مثقفين لا يتمتعون بالخبرة، وأنا أخشى من المثقفين عديمي الخبرة لأنهم يأخذون ما هو متداول بالسوق، ويطرّزون حوله، ويصبحون أداة لتبرير القوى السائدة.
في كتاب “من أجل لبنان” الذي يعتبر نوعاً من وصية كمال جنبلاط، يقول: “أخشى المثقفين الصافين” أي الذين لا يملكون خبرة، ويتداولون في الشعارات والسجالات المتداولة في السوق.
لبنان ليس لديه أيّ خيار غير دولة لبنان الكبير… يوجد أوهام وأحلام أخرى، لكن لا يوجد عملياً خيار آخر غير دولة لبنان الكبير. نحن اليوم في وضع تقسيمي، في دولتين. لو كنّا مثل قبرص، لكان حصل تهجير وفرز. أما في لبنان، فالموضوع مختلف منذ تاريخه، ومنذ القائمقاميتين. لكالما كانت الطوائف متشعّبة. هناك قول للرئيس تقي الدين الصلح: “الطوائف في لبنان متوازنة في العدد ومتوزّعة في المناطق”. وهذا كان موضوع نظام القائمقاميتين الذي درسته بتعمّق، ولا يمكن شرجه في كتب التاريخ. لبنان جرّب كلّ أشكال الفدرلة خلال تاريخه. هو نموذج عالمي في فعالية مختلف أشكال الفدرلة. وهذا ما عرضته خلال افتتاح “الجمعية العالمية للقانون الدستوري” معهداً للفدرالية في سويسرا عام 1986. في اليوم الأول، كانت جميع المداخلات عن الفدرالية بالمفهوم الجغرافي، وعن التقسيم إلى مقاطعات. نحن في لبنان، كانت حروبنا مندلعة حينها. وكانت مداخلتي في اليوم الثاني من المؤتمر لأقول للمشاركين الكبار إنّ “كلّ ما سمعته منكم هو علمي ومفيد، ولكنه جرائمي (جُرم) لأنكم تفترضون أنّ المجموعات التي يقتضي حمايتها متمركزة في مناطق معيّنة. لكن ما هو الوضع عندما تكون المجموعات اللغوية العرقية القومية متوزّعة في المناطق؟ لكي لا نتكلم عن تجربة لبنان، هناك تجربة بروكسل المختلطة التي عالجت قضيتها بنوع من الفدرالية الشخصية. وهناك حالة نيجيريا والهند وحالات أخرى، وإلا أنتم تشجّعون الحروب، والفرز السكاني، والتهجير”.
عند نشوء دولة لبنان الكبير، تراجعت أدوار الطوائف التي كانت أساسية (مثل الموارنة والدروز في جبل لبنان…) “أصبحنا كلنا لبنانيين، ولنا دور في بناء لبنان
يتابع: “لا يوجد خيار آخر في لبنان عملياً، وأنا اتكلّم مع ابتسامة، لكنّني حزين جداً لأني أكتب في هذه الموضوع منذ 40 سنة. أنا لا أدافع، بل أتكلّم بواقع الأمور. نحن محكومون بدولة لبنان الكبير، وإلا سنصل إلى حالة من الفوضى وحروب أهلية مستدامة مثل الصومال لذلك علينا العودة الى الميثاق”.
ينظر الدكتور مسرة إلى اللحظة الحالية على أنهّا حرب سيادة علينا خوضها: “المستهدف في لبنان هو الصيغة التعدّدية وهوية لبنان. وورد في مقدمة الدستور اللبناني (لبنان عربي الهوية والانتماء) والمستهدف أيضاً هو النظام المصرفي (لبنان كان سويسرا الشرق مصرفياً وليس سياسياً). واليوم نحن أمام معركة سيادة، البعض انزعج من هذا الكلام واعتبر أنّه يستهدف حزب الله بشكل خاص لكن أتحدث عن الدولة”.
في مراحل التعليم المدرسي، وحتى في كليات الحقوق، “لم تشرح كتب التاريخ وكتب كليات الحقوق قواعد إعراب مفهوم الدولة. الرئيس فؤاد شهاب كان من الذين فهموا معنى الدولة، ولم يكن لديه مشكلة مع النظام ولا مع ميثاق الـ43 ولم يعترض أبداً على البنية الدستورية اللبنانية، بل كان يتذكّر من “أكلة الجبنة” ومن الثقافة السياسية السائدة بين اللبنانيين”.
عند نشوء دولة لبنان الكبير، تراجعت أدوار الطوائف التي كانت أساسية (مثل الموارنة والدروز في جبل لبنان…) “أصبحنا كلنا لبنانيين، ولنا دور في بناء لبنان. الجنرال غورو هو الذي “أعلن” لبنان الكبير، لكنّه ليس الذي أنشأ هذا اللبنان الكبير، لأنّ لبنان الكبير موجود منذ أيام الفينيقيين، جغرافياً وعلاقاتٍ اقتصادية واجتماعية وإنسانية. ومن أبرز مشاكلنا أنّنا إلى اليوم ندرس في كتاب التاريخ، تاريخ جبل لبنان، وليس تاريخ لبنان”.
في الحلقة الثانية غداً:
البديل عن الطائف حرب أهلية، وعلينا التعلّم من التاريخ وليس في التاريخ