السعودية ولبنان: الحكاية الكاملة

مدة القراءة 10 د


حكاية العلاقات اللبنانية السعودية طويلة، منذ ما قبل تأسيس لبنان، وإلى يومنا هذا. ولعلّ الموقف الصارم للملك سلمان بن عبد العزيز دعماً للشعب اللبناني، في كلمته التي ألقاها بمناسبة انعقاد الدورة الـ 75 للأمم المتحدة في نيويورك، واعتباره أنّ الحلّ يكون بنزع سلاح حزب الله، ووصفه بأنّه إرهابي، هو درّة المواقف السعودية. فهذا الموقف يتوّج حزمة الثوابت السعودية بإزاء لبنان، انحيازاً إلى المؤسسات الدستورية فيه. وهو يأتي عقب الكارثة الإنسانية التي تسبّب بها انفجار مرفأ بيروت، التي يتحمّل مسؤوليته حزب الله بسبب هيمنته على القرار اللبناني بقوّة السلاح، وحمايته الفساد. لهذا اعتبر الملك سلمان أنّ تحقيق ما يصبو إليه اللبنانيون من أمن واستقرار ورخاء يتطلّب أولاً نزع هذا السلاح.

إقرأ أيضاً: أي حكومة بعد خطاب الملك سلمان؟

وما بين المملكة العربية السعودية ولبنان علاقة خاصة، تتجاوز التقاليد الدبلوماسية والمصالح المادية المتبادلة بين الدول الشقيقة أو الصديقة. إنها حكاية توأمة روحية بين الرياض وبيروت، تمظهرت على مدى عقود طويلة، منذ ما قبل الاستقلال، فترسّخت وتشعّبت، حتى صارت المملكة حاضرة بقوة في كلّ المحطات المصيرية التي مرّ بها لبنان، لا سيما في المرحلة الممتدة ما بين نهاية الستينيات وإلى ما بعد إنهاء الحرب الأهلية فيما سمّي بمرحلة إعادة الإعمار، مروراً بالمحطة الأساس وهي اتفاق الطائف عام 1989 الذي دخلت بنود أساسية منه على شكل تعديلات دستورية.

لبنان مهمّ بالنسبة للمملكة، ومهمّ بالنسبة إلى سياستها العربية، ومهمّ بالنسبة لسياستها الدولية. لبنان نموذج وشهادة لمصلحة العرب، ويجب أن يتمسّكوا بهذه الشهادة وأن يحافظوا عليها

لقد ساندت المملكة استقلال الدول العربية ومنها لبنان عن الاستعمار الغربي. وكان الملك عبد العزيز آل سعود (1932-1953) يؤمن بوحدة الشعوب العربية وحريتها واستقلالها، على أن تكون الأولوية لاستقلال كلّ قطر على حدة، قبل العمل على وحدتها. وهذا ما جاء في الرسالة التي بعثها إلى رئيس الكتلة الإسلامية في لبنان محمد جميل بيهم، في أيار عام 1943. وعندما وقعت أزمة تشرين الثاني من العام نفسه بين الحكومة اللبنانية والانتداب الفرنسي، طالبت المملكة بإطلاق سراح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح، والوزراء والنواب المعتقلين. وعندما انطلقت المشاورات لإطلاق جامعة الدول العربية بين عامي 1944 و1945، كان وزير الخارجية السعودي آنذاك، فيصل بن عبد العزيز، حريصاً على مراعاة الخصوصية اللبنانية، وعلى التجاوب مع مطالب السياسيين اللبنانيين بعدم المضيّ في وحدة عربية لا تتوافر شروطها، لا سيما في الجانب اللبناني، إذ إنّ طبيعة لبنان وتركيبته السكانية والطائفية والسياسية لا تسمح له بالانخراط في هذه الوحدة، فضلاً عن أنه من الصعب تحقيق وحدة عربية في نظام دستوري واحد (حسان حلاق، في كتاب “العلاقات السعودية اللبنانية“).

وافتتح الرئيس كميل شمعون عام 1952 مرحلة التعاون الرسمي الوثيق بين الدولة اللبنانية والمملكة، حين زار الملك المؤسس عبد العزيز، على رأس وفد رفيع.

لكن لبنان كان حاضراً قبل ذلك بذوي الكفاية والعلم والخبرة من شبابه، في مرحلة بناء المملكة من قبل الطفرة النفطية، وبعدها. ومع بروز الدور الجديد للمملكة في السياسات العربية والإقليمية والدولية، وموقعها المحوري في الشرق الأوسط، خلال عهد الملك فيصل بن عبد العزيز (1964-1975)، ثم وليّ العهد فهد بن عبد العزيز في عهد الملك خالد بن عبد العزيز (1975-1982)، وبعدها عندما صار فهد ملكاً، كان للسعودية مساهمة مميّزة في التصدّي لعوامل الاحتراب الاهلي في لبنان، سواء أكانت من خارج أو داخل البلاد. وللأمير فهد مواقف مشهودة بإزاء لبنان في زمن محنته إذ قال: “لبنان مهمّ بالنسبة للمملكة، ومهمّ بالنسبة إلى سياستها العربية، ومهمّ بالنسبة لسياستها الدولية. لبنان نموذج وشهادة لمصلحة العرب، ويجب أن يتمسّكوا بهذه الشهادة وأن يحافظوا عليها”.

ويمكن تقسيم العلاقات السعودية اللبنانية إلى مراحل متعاقبة ومختلفة بطبيعة ظروفها وتحدّياتها:

أ‌) المرحلة الأولى، ما قبل عام 1982 عندما تركّزت الجهود على وقف حرب السنتين (1975-1976) من خلال قمة الرياض عام 1976، والتي تمخّض عنها تشكيل قوات الردع العربية، التي أسهمت فيها السعودية بالمال والرجال. ومن خلال مؤتمر بيت الدين عام 1978 لاحتواء الموقف المتفجّر آنذاك بين القوى المسيحية وبين سوريا في لبنان. وفي قمة تونس عام 1979، من أجل تنفيذ مقرّرات مؤتمر بيت الدين، وفي مقدّمتها، إعادة بناء الجيش اللبناني على أسس وطنية، وبسط سلطة الدولة على المنطقة الحدودية في جنوب لبنان، وتحقيق المصالحة بين اللبنانيين. وفي السياق نفسه، استنكرت المملكة إعلان سعد حداد “دولة لبنان الحرّ” معتبرة تلك الخطوة “مؤامرة صهيونية خطيرة على لبنان”. وكانت أزمة زحلة بين “القوات اللبنانية” بقيادة بشير الجميل، وبين القوات السورية في نيسان عام 1981، امتحاناً جديداً للدبلوماسية السعودية، وما نشأ بعد ذلك من أزمة الصواريخ بين سوريا وإسرائيل. وقد صرّح الأمير فهد يومذاك بأنّ المملكة تقف بإزاء أحداث زحلة مع الشرعية اللبنانية وتدعمها. وقال سفير المملكة في ذلك الوقت علي الشاعر: إنّ المملكة تصرّ على وقف إطلاق النار، وإنهاء حصار القوات السورية لمدينة زحلة، ليكون ذلك مقدّمة لتحقيق المصالحة اللبنانية. وبالفعل، توقّف الحصار، وخرجت “القوات اللبنانية” بمواكبة سعودية.

وفي شهر آب من ذلك العام، أطلق ولي العهد فهد بن عبد العزيز مبادرة للسلام في الشرق الأوسط، تنتهي بحلّ الأزمة اللبنانية، وتحوّلت المبادرة نفسها إلى “مبادرة فاس” في القمة العربية التي انعقدت في المغرب، عام 1982، إثر تبنّيها أخيراً من الدول العربية. وتقوم المبادرة على مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وتطبيق القرار الدولي رقم 242. إلا أنّ الردّ الإسرائيلي الرافض للمبادرة جاء عبر اجتياح لبنان لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية، وتنصيب حكومة موالية في لبنان، تصادق على معاهدة سلام مع إسرائيل.   

ب‌) في المرحلة الثانية، بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، انشغلت الدبلوماسية السعودية على خطين: تأمين خط انسحاب آمن للمقاتلين الفلسطينيين المحاصرين في بيروت لوضح حدّ للعمليات الحربية الإسرائيلية، والتعامل ببراغماتية مع الوقائع الجديدة من خلال استضافة قائد “القوات اللبنانية” بشير الجميل، المرشح الرئاسي الوحيد، من أجل إيجاد حلّ للوجود العسكري والمدني الفلسطيني، وحصره في المخيمات. ثم دعمت انتخاب الرئيس أمين الجميل عقب اغتيال شقيقه الرئيس بشير في 14 أيلول من العام نفسه. وواصلت جهود الوساطة بين الأفرقاء اللبنانيين، ورفضت اتفاق 17 أيار عام 1983 بين لبنان وإسرائيل، بما له من تداعيات سلبية على العلاقات بين أطراف الأزمة، ولرفض دمشق له. وبذل رفيق الحريري، مبعوث المملكة آنذاك، جهوداً متواصلة لإنهاء الحرب الأهلية، على الرغم من تعقّد خطوط الأزمة، واندلاع معارك ضارية بين الجيش اللبناني من جهة وقوات الحركة الوطنية وحركة أمل في بيروت والجبل من حهة أخرى. ثم وقعت حروب صغيرة داخل الطوائف نفسها في الطريق إلى رسم نهايات الأزمة اللبنانية (عبد الرؤوف سنو في كتاب “العلاقات السعودية اللبنانية“). إلى أن نجحت المملكة بجمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف (بين 30 أيلول و22 تشرين الأول عام 1989)، حيث رعت الاتفاق الذي حمل اسم المدينة، فكانت نهاية الحرب بعد عام، بعملية عسكرية في 13 تشرين الأول ضدّ قوات رئيس الحكومة ميشال عون.

لم تتخلّ المملكة عن علاقتها بلبنان ولا عن شغفها به، لكن لم يعد بمقدورها التغافل عن الوقائع المناقضة لمقتضيات العلاقات الأخوية بين بلدين عربيين، فضلاً عن العلاقات الطبيعية بين الدول

ج‌) في المرحلة الثالثة، ما بين عامي 1989 و2005، تعاظمت إسهامات المملكة سياسياً ومالياً، من أجل مسح آثار الحرب وتعمير ما تهدّم، وكان ذلك خاصة في عهد حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كانت تربطه علاقات وثيقة مع قادة المملكة، مع الملك فهد بن عبد العزيز (1982-2005)، كما مع وليّ عهده الأمير عبد الله بن عبد العزيز. وفي هذا المسار، كانت المملكة جاهزة لمدّ لبنان بالمساعدات والإيداعات المالية، لدعم خزينة الدولة، في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، ولتغطية أعباء الديون المتراكمة، ودعم سعر الليرة اللبنانية أمام الدولار بواسطة البنك المركزي. لكن اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، كان منعطفاً أساسياً في سياسات المملكة، التي اعتبرت الحادث استهدافاً لها كما أنه استهداف لاستقرار لبنان وازدهاره.

د‌) المرحلة الرابعة، كانت بين عامي 2005 و2011، مشحونة بالأحداث والاضطرابات والتظاهرات المتبادلة بين معسكري 8 و14 آذار. وتمسّكت المملكة بالشرعية الرسمية كعادتها، والتي كانت تتمثّل بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي كان عليها أن تواجه الحصار في وسط بيروت، وسلسلة الاغتيالات لرموز قوى 14 آذار ومنهم نواب أو وزراء في الحكومة، وصولاً إلى الحملة العسكرية الشاملة التي اجتاح حزب الله خلالها بيروت في 7 أيار 2008 والجبل في 11 أيّار، والتي انتهت في اتفاق الدوحة، بعد أسبوعين، لترسّخ “الثلث المعطل” في الحكومة لحزب الله. ولم تلبث أن سقطت الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري بهذا الثلث عام 2011.

هـ) أما المرحلة الأخيرة، فيمكن تحديدها بما بين إسقاط الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري عام 2011، وصولاً إلى أيامنا هذه، مروراً بالتسوية الرئاسية التي جاءت بالحليف الوثيق لحزب الله، العماد ميشال عون، رئيساً للجمهورية عام 2016، وتشكيل حكومتي الحريري في هذا العهد بسيطرة واضحة للحزب وحلفائه، وبقانون الانتخابات النيابية بينهما، الذي وفّر للحزب أكثرية مريحة في البرلمان. في هذه الحقبة المضطربة من تاريخ لبنان والمنطقة، بدأ عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، وعُيّن الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، فانطلقت مرحلة جديدة من السياسات الداخلية والخارجية التي توصف بأنها حاسمة وجذرية في كثير من المناحي. وانطلقت دينامية شابة في الحكم لم تشهدها المملكة منذ أمد بعيد، وبلغت الطموحات شأواً كبيراً، حتى إنّ اليوم الوطني السعودي هذا العام، حمل شعاراً لوليّ العهد أطلقه وهو: “همّة حتى القمّة”، والمقصود بها قمة جبل الطويق في قلب نجد، الذي يمتدّ على طول 800 كلم على شكل طوق، دلالة على العزيمة والتصميم. وبناء عليه، فإنّ سياسة المملكة بإزاء لبنان لم تتغيّر في الجوهر بل في الأسلوب. فلم تتخلّ المملكة عن علاقتها بلبنان ولا عن شغفها به، لكن لم يعد بمقدورها التغافل عن الوقائع المناقضة لمقتضيات العلاقات الأخوية بين بلدين عربيين، فضلاً عن العلاقات الطبيعية بين الدول.

فكانت استقالة سعد الحريري في الرياض عام 2017 وما تبعها من ابتعاد سعودي عن دعم لبنان، طالما أنّ حزب الله يسيطر على القرار السياسي والأمني في لبنان، ويدعم محاولات ضرب المملكة وقصفها، عبر الحوثيين، والاعتداء المباشر عليها، إعلامياً وسياسياًً وعسكرياًً، برعاية حزب الله، من لبنان. إلى أن كانت كلمة الملك سلمان الموجّهة للجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الماضي لتقطع الشك باليقين. تحت عنوان “تجريد حزب الله من السلاح”.

مواضيع ذات صلة

بشّار: معي كلّ المسلمين ونصف المسيحيّين!

فيما الأنظار منصبّة على الجيش اللبناني والتوغّل الإسرائيلي. وفيما ننتظر ردود اللجنة الخماسية، أو زيارة آموس هوكستين، أو مقرّرات الحكومة اللبنانية. وفيما القلب على سوريا…

تحصين سعوديّ لسوريا ولبنان معاً: لا عودة للوراء؟

آليّة تطبيق القرار الدولي 1701 في لبنان تنتظر انتخاب رئيس للجمهورية في 9 كانون الثاني تتّفق هويّته مع بنود اتّفاق وقف النار. تستفيد إسرائيل من…

الشرع من “الإمارة الإسلاميّة” إلى “الدّولة الوسيطة”؟

عام 2014، أعلن الجولاني أنّه بصدد إقامة إمارة إسلامية في سوريا، وذلك بعد رفضه خلافة البغدادي، ومبايعته تنظيم “القاعدة”. وكانت غايته رفض قيام دولة علمانية…

كيف دبّروا فتنة “الميلاد” السّوريّ؟

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضدّ “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق. قالت المتحدّثة…