جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها مارقة. رئيس مؤسسة غايتستون، وهي مجموعة تفكير، وباحث سابق في مؤسسة أنتربرايز المرتبطة بالمحافظين الجدد. عمل كمحامٍ، ودبلوماسي، ومستشار سابق للأمن القومي. ما بين عامي 2001 و2005 عمل في إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن في ملف نزع السلاح. واستلم منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بين عامي 2005 و2006. وفي إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب عمل مستشاراً للأمن القومي بين عامي 2018 و2019، ثم استقال لخلافات في الرأي مع الرئيس. وفي أواخر حزيران العام الحالي، صدر له كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث“ مذكرات البيت الأبيض”The Room Where It Happened: A White House Memoir”، والذي تضمّن انتقادات لاذعة لسياسات ترامب، وكيفية إدارته قوة عظمى في مواجهة أزمات حادة.
“أساس” ينفرد بنشر مقتطفات من الكتاب على حلقات، بالاتفاق مع دار نشر “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، التي حصلت على حقوق الترجمة والنشر بالعربية.
إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (9): ترامب يعجز عن فصل “الشخصي” عن “السياسي”
بدأت الحرب التي شنّها الإرهابيون الإسلاميون المتطرّفون ضد الولايات المتحدة قبل وقتٍ طويل من 11 أيلول/ سبتمبر، وسوف تستمرّ بعد ذلك التاريخ لوقتٍ طويل. يُمكن للمرء أن يتفق مع هذا الرأي أو يخالفه، لكنه الواقع. لم يتفق دونالد ترامب مع هذه الحقيقة، ولهذا تصرّف على أساس أنها غير موجودة. عارض الحروب التي لا تنتهي في الشرق الأوسط، لكنه لم يضع خطة متماسكة لما سوف يتبع سحب القوات الأميركية، والتخلّي فعلياً عن حلفاء إقليميين أساسيين مع بدء عملية الانسحاب. دأب ترامب على القول إنّ تلك البلدان تبعد عنّا آلاف الأميال، وهذا التفكير خاطىء. وعلى عكسه، حاولت خلال عملي في البيت الأبيض أن أتعاطى مع الواقع، وقد فعلت ذلك بنجاح متفاوت.
قضية القسّ برونسون في تركيا
بعد الضربة التي نفذّناها في سوريا، في شهر نيسان/ أبريل عام 2018، ردّاً على هجوم بشّار الأسد على دوما بالأسلحة الكيميائية، عادت سوريا لتظهر على الساحة بصورةٍ غير مباشرة، عبر اعتقال تركيا القسّ آندرو برونسون Andrew Brunson. كان الرجل مبشّراً إنجيلياً لا يتعاطى السياسة، وهو الذي عاش مع عائلته وعمل في تركيا لفترة عقدين من الزمن قبل اعتقاله في العام 2016، وذلك بعد فشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس رجب طيّب أردوغان. كان برونسون مجرّد أداة مساومة، وكان من السخرية توجيه الاتهام إليه بالتآمر مع أتباع فتح الله غولين Fethullah Gulen، وهو مدرّس إسلامي يعيش في أميركا. كان غولين ذات يوم حليفاً لأردوغان، ولكنه اليوم يعاديه فيُتهم بشكل مهووس بالإرهاب. أجرى أردوغان اتصالاً مع ترامب فور عودته من هلسنكي، من أجل استئناف اتصالاتهما حول قضية برونسون وعلاقته بغولين، وذلك بعد لقائهما القصير خلال اجتماع الناتو (حلف شمال الأطلسي)، والمكالمة الهاتفية التي تبعته. أثار أردوغان كذلك موضوعاً آخر أثيراً لديه، وعادةً ما يناقشه مع ترامب، وهو إدانة محمد أتيلا Mehmet Atilla، وهو مسؤول رفيع في مصرف هالكبنك Halkbank التركي الذي تديره الدولة، وذلك بسبب تلاعب مالي ناتج عن خروقات كبيرة للعقوبات التي فرضناها على إيران. إنّ هذا التحقيق الجرمي المستمر يهدّد أردوغان نفسه بسبب اتهامات تطاله وأسرته عن استغلال مصرف “هالكبنك” لأغراضٍ شخصية، الأمر الذي سهّله أكثر تعيين صهره وزيراً للمالية في تركيا.
تذمّر ترامب قائلاً: إنّ ذلك يفسّر لماذا لا يريد أحد التعامل مع أردوغان، خاصة أنّ المجتمع المسيحي بأكمله في أميركا كان غاضباً من أجل هذا القسّ، وغضبه وصل إلى أوجه
اعتبر أردوغان أنّ غولين وجماعته مسؤولون عن الاتهام بالتلاعب الموجّه إلى “هالكبنك”، وهذا يعني أنّ كلّ ذلك كان جزءاً من مؤامرة ضده، وبالطبع ضدّ ثروة أسرته المتنامية. أراد أردوغان إقفال قضية “هالكبنك”، وهو الأمر الذي أصبح مستبعداً لأن المدّعين العامين وضعوا أيديهم على تفاصيل عمليات التلاعب في المصرف. وأخيراً، أبدى أردوغان قلقه الشديد بسبب مشروع قانون في الكونغرس من شأنه إيقاف صفقة بيع طائرات أف-35 إلى تركيا لأن أنقرة كانت تنوي شراء نظام أس-400 للدفاع الجوي من روسيا. وإذا تمّت الصفقة فقد تسفر عملية الشراء عن إطلاق عقوبات إجبارية ضد تركيا، بموجب قانون العقوبات ضد روسيا الصادر في العام 2017. يعني ذلك أنّ أردوغان لديه الكثير من أسباب القلق.
غير أنّ ما كان ترامب يريده محدود جداً؛ أراد أن يعرف متى سيتمّ إطلاق برونسون ليعود إلى أميركا، وهو ما ظنّ أنّ هذا ما وعده به أردوغان. لكن أردوغان لم يقل إلّا إنّ الإجراءات القضائية التركية مستمرة، وأنّ برونسون لم يعد سجيناً، لكنه تحت الإقامة الجبرية في إزمير، تركيا. ردّ ترامب بأنه يظنّ أنّ هذا الكلام لا يُسهّل الأمور أبداً، وأنه كان يتوقع أن يسمع من أردوغان أنّ برونسون، الذي كان مجرّد قسّ محلي، سيعود إلى الوطن. أكّد ترامب على صداقته مع أردوغان، لكنه لمّح إلى أنه سوف يكون من المستحيل، حتّى بالنسبة له، تسوية المسائل الصعبة التي تواجه علاقة الولايات المتحدة وتركيا، إلّا إذا عاد برونسون إلى الولايات المتحدة. شعر ترامب بالاستياء الشديد.
تذمّر ترامب قائلاً: إنّ ذلك يفسّر لماذا لا يريد أحد التعامل مع أردوغان، خاصة أنّ المجتمع المسيحي بأكمله في أميركا كان غاضباً من أجل هذا القسّ، وغضبه وصل إلى أوجه. أجاب أردوغان بأنّ المجتمع الإسلامي في تركيا كان غاضباً إلى حدّ الجنون، لكن ترامب قاطعه بقوله إنّ المسلمين يتصرّفون بجنون في جميع أنحاء العالم، ويدهم مطلقة ليفعلوا ذلك، وغنيٌ عن القول إنّ الحديث قد ساء بعد ذلك.
واجهنا مشكلة تعدّد المفاوضين من كلا الجانبين، فقد كانت سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة نيكي هالي تجري محادثات مع سفير تركيا في الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي قال عنه الأتراك إنهم لم يفهموه؛ ولا نحن فهمناه. قال بومبيو بتجهّم إنه يقوم بحلّ المشكلة عن طريق الطلب من هالي التوقّف عن إجراء اتصالاتٍ غير رسمية مع الأتراك، وهو الأمر الذي زاد حجم التشويش الكبير الحاصل. لكن لحسن الحظ نجح الأمر هذه المرة. لكن لم تُسفر الجهود الدبلوماسية عن أيّ شيء بالنسبة إلى قضية برونسون. أما ترامب فقد سمح باستمرار المفاوضات، لكن حدسه بالنسبة إلى أردوغان كان مصيباً: الطريقة الوحيدة لإطلاق سراح برونسون هي الضغوط الاقتصادية والسياسية. وهنا على الأقل لم يكن لدى ترامب أيّ مشكلة في فرضها على الرغم من حديث وزير الخزانة منوشين المتفائل. وهكذا تحوّل أردوغان تلقائياً من أحد أفضل أصدقاء ترامب الدوليين المقرّبين إلى هدف لعدائية حادّة.
في هذه الأثناء، نفد صبر ترامب من التأخير والتعتيم اللذين تعتمدهما تركيا، ولذلك أمر في 10 آب/ أغسطس بمضاعفة الرسوم الجمركية على صادرات تركيا من الفولاذ بنسبة 50 في المئة، وزيادة الرسوم على صادراتها من الألومينيوم بنسبة 20 في المئة، وذلك على الرغم من احتمال عدم وجود مسوّغ قانوني كافٍ لهذا الإجراء. ولعلها المرة الأولى في التاريخ التي تُرفع بها الرسوم الجمركية بواسطة تغريدة على موقع تويتر!
كان كلام ترامب بهذا الخصوص مجرّد هراء، لأن المدّعين العامّين كانوا موظّفين محترفين تابعين لوزارة العدل، أي أنّهم كانوا سيمضون في القضية بالطريقة ذاتها لو أنّ التحقيقات المتعلّقة بمصرف “هالكبنك” بدأت في السنة الثامنة من رئاسة ترامب بدلاً من السنة الثامنة من رئاسة أوباما
لم يتأخر ردّ تركيا، ففرضت الرسوم الخاصة بها، وردّ ترامب بطلب فرض المزيد من العقوبات. حاول منوشين إبطاء سرعة ترامب في فرض العقوبات، الأمر الذي كان من شأنه أن يُغضب ترامب أكثر. اقترح نائب الرئيس بعد ذلك أن يقوم جاريد كوشنير بالاتصال بوزير مالية تركيا، بما أنّ كليهما صهر رئيس بلاده. ما الذي يمكن أن يسير بشكل خاطىء حقاً؟ تحدّثت مع بومبيو ومنوشين عن هذه القناة الجديدة بين الصهرين، فانفجرا غضباً: غضب منوشين لأن الصهر التركي هو نظيره وزير مالية، وبومبيو لأن هذا الإجراء كان مثالاً إضافياً على تدخّل كوشنير في المفاوضات الدولية، وهو أمرٌ يجب عليه ألّا يُقحم نفسه فيه (بالإضافة إلى خطة السلام في الشرق الأوسط، والتي لم تكن أبداً جاهزةً بالكامل). أما أنا فلطالما استمتعت بالإبلاغ عن الأخبار الطيبة. كان ترامب وكوشنير مسافرين إلى منتجع هامبتونز للمشاركة في حفل سياسي لجمع التبرعات وحيث كان منوشين قد سبقهما. اتصل بي كوشنير بعد ذلك ليبلغني بأن منوشين قد هدأ، وأضاف أنه أبلغ الصهر التركي بأنه يتصل به بصفته الشخصية من قبيل الصداقة، وأن هذا الاتصال ليس أبداً إشارة ضعف أمام للأتراك. أما أنا فقد ساورني الشك بأنّ الأتراك قد صدّقوا ذلك الكلام.
تغيّر موقف ترامب من أردوغان
بعد فترة قصيرة تغيّر موقف ترامب من أردوغان وتركيا، وكان قد مضى على موضوع برونسون ستة أسابيع. التقى الزعيمان في اجتماع ثنائي في 1 كانون الأول/ ديسمبر في قمة العشرين التي عُقدت في بوينس آيريس (الأرجنتين)، ودار معظم حديثهما حول قضية مصرف “هالكبنك”. قدّم أردوغان خلال هذا اللقاء مذكّرةً حضّرها مكتب المحاماة الذي يمثّل “هالكبنك”. لم يفعل ترامب شيئاً غير تقليب صفحات المذكّرة قبل أن يُعلن أنه يعتقد بأن “هالكبنك” بريء تماماً في قضية خرق العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. سأل الرئيس بعد ذلك ما إذا كنا نستطيع الاتّصال بالقائم بأعمال المدعي العام مات ويتاكر Matt Whitaker، لكني تجنّبت طلبه هذا. أبلغ ترامب أردوغان بأنه سوف يهتم بالموضوع، وشرح له أن المدّعين العامّين في المقاطعة الجنوبية في نيويورك لا يتبعون له، بل يتبعون أوباما، وهي مشكلة يجب عليه تسويتها باستبدالهم بأشخاص خاضعين لسلطته.
كان كلام ترامب بهذا الخصوص مجرّد هراء، لأن المدّعين العامّين كانوا موظّفين محترفين تابعين لوزارة العدل، أي أنّهم كانوا سيمضون في القضية بالطريقة ذاتها لو أنّ التحقيقات المتعلّقة بمصرف “هالكبنك” بدأت في السنة الثامنة من رئاسة ترامب بدلاً من السنة الثامنة من رئاسة أوباما. بدا الأمر برمّته وكأن ترامب يحاول إظهار أنّه يتمتع بالسلطة الاستنسابية ذاتها التي يمتلكها أردوغان، والذي قال قبل عشرين سنة، عندما كان رئيس بلدية إسطنبول: “تشبه الديمقراطية الترامواي الذي تستطيع أن تستقلّه إلى المحطة التي تريدها، ثم تنزل منه”.
إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (8): بوتين في قمة هلسنكي “لا نحتاج إيران في سوريا”
تابع ترامب حديثه زاعماً أنه لا يريد أن يحدث أيّ سوء لأردوغان أو تركيا، وأنه سوف يبذل قصارى جهده في هذا الموضوع. اشتكى أردوغان كذلك بشأن القوات الكردية في سوريا (وهو الأمر الذي لم يتحدّث عنه ترامب بشيء)، ثم أثار موضوع فتح الله غولين مجدداً، طالباً تسليمه إلى تركيا. وهنا علّق ترامب قائلاً: إنّ غولين لن يصمد أكثر من يومٍ واحد إذا عاد إلى تركيا. ضحك الأتراك، لكنهم قالوا إنّ غولين يجب ألّا يقلق من أيّ شيء، لأن تركيا لا تطبّق حكم الإعدام. لم يطل أمر هذا الحديث الثنائي لحسن الحظ، فانتهى بعد وقتٍ قصير. ومن جهتي، فإنني لم أتوقّع حصول أيّ شيءِ مطمئن من هذه العلاقة الحميمة المتجدّدة مع حاكمٍ استبدادي أجنبي آخر.
*نشر في الأصل بلغته الإنكليزية بعنوان: THE ROOM WHERE IT HAPPENED.
Copyright (c) 2020 by John Bolton
حقوق النشر بالعربية (c) شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش. م. ل.
جميع الحقوق محفوظة (c)