الانبهار خطف اللحظة، أمام تلك اللوحات الفنية الأخّاذة في الصوت والصورة التي رصدتها شاشاتنا من “أولمبيا” باريس، بتحوّله إلى عالم جميل مناقض لما يعيشه اللبناني من بشاعة يومية تكثّفت في انفجار 4 آب. فبحلول شهرين على تلك الفاجعة، شهد اللبنانيون والعالم الحدث الفني “متحدون لأجل لبنان” الذي نظّمه الموسيقار إبراهيم معلوف، مع باقة من الفنانين المرموقين أمثال هبة طوجي، وأسامة الرحباني، وميكا، وعازف البيانو عبد الرحمن باشا، وفلوران باجني، وكلارا لوشياني، وباسكل أوبيسبو وماثيو شديد، وغيرهم كثير. إلا أنّ الحدث أثار انتقادات واسعة حول غياب أغلبية النجوم اللبنانيين عن تنظيم حفل مماثل لدعم المتضرّرين من الانفجار إلى حدّ يسمح لنا بالقول إنّ إلتزام وحرفية وحجم تلك الليلة الباريسية الرائعة افتضح صمت أو شبه غياب الفنانين داخل لبنان.
إقرأ أيضاً: الإحساس بالذنب يلاحق الناجين من تفجير المرفأ: لماذا لم نَمُت؟
في الحقيقة، ينطبق على الفنانين بداخل لبنان مقولة “نحن نجود بالموجود”، فهم لم يغيبوا عن صناعة “شيء ما”، إلا أنه لم يتعدّ حيّز المشاركات على مواقع يوتيوب ومواقع التواصل وبعض تطبيقات الأغاني.
آخر الأغنيات كانت “بيروت” بصوت الفنانة نجوى كرم التي طرحتها الأسبوع الماضي، وهي من كلمات روجيه فغالي وألحان وسام الأمير.
في ليلة وضحاها اكتسحت هذه الأغنية التفاعلات عبر “الهاشتاغ”. إلا أنّ حضورها سرعان ما تراجع، كأنّها “تراند” آني على فيسبوك وتويتر لا أكثر، ما لا يوازي أو يليق بحجم المأساة
وقد تكون “ابني حلو ومليح” الأغنية التي ظهرت أولاً، وحقّقت في حينه أكبر نسبة مشاركة. كتبها ولحنها فارس إسكندر بعدما سمع كلمات والدة الضحيّة حمد العطار، وهي تبحث عن ولدها في المستشفيات. جميعنا يذكر هذه السيدة المكلومة التي التقطتها إحدى شاشات التلفزة تسأل كلّ من تصادفه عن ابنها، واستخدمت جملة “حدا شفلي ابني هوي حلو ومليح وعيونو عسلية وقلبو طيب”.
وفي ليلة وضحاها اكتسحت هذه الأغنية التفاعلات عبر “الهاشتاغ”. إلا أنّ حضورها سرعان ما تراجع، كأنّها “تراند” آني على فيسبوك وتويتر لا أكثر، ما لا يوازي أو يليق بحجم المأساة.
ولنقسْ على هذا المستوى، أغنية الشاعر علي الأخرس حول مأساة هذه الأم، فألّف أغنية “بو عيون عسلية”، وغنّاها مروان الشامي. وكانت هذه الأغنية الثانية للأخرس، الذي كتب ونشر “والله بكتنا بيروت” بصوت رامي سليقة.
وواكب جوزف عطية فاجعة بيروت بأغنية “صلوا لبيروت”، وكذلك فعل الفنان وليد توفيق بأغنية “ما في صباح الخير يا بيروت” من كلمات الشاعر نزار فرنسيس. وما هذه سوى عيّنات عن أغانٍ جديدة من وحي 4 آب تزدحم بها الساحة الفنية بين يوم وآخر.
لا يمكن سوى الاعتراف بامتياز حفل الأولمبيا، سواء في التفاعلات العارمة لدى الجمهور الذي أحدثها أسلوب هذا الحفل أو مضمونه وأيضا غايته، إذ يذهب ريع هذا الحفل “إلى الصليب الأحمر اللبناني وجمعيات تعنى بالإغاثة والتراث”، على ما صرّح إبراهيم معلوف
اللافت هنا أنّ المغنية الشابة ماريتا الحلاني اختارت أن تعيد غناء “لبيروت” للسيدة فيروز، وصوّرتها مرفقة بلقطات من المدينة المنكوبة. وعادت الأغنية لتتصدّر الشاشات بصوت فيروز، بالاضافة إلى أغاني ماجدة الرومي “يا بيروت” و”ست الدنيا يا بيروت” و”ارجعي يا بيروت”.
يدور إذن السؤال عن أغاني فاجعة بيروت: هل سنجدها تتردّد في منعطفات أخرى، والجمهور لا يكاد يذكرها أو علم بوجودها اليوم، فيما أغاني ماجدة الرومي وفيروز لا تزال تتصدّر ذاكرة وشاشات اللبنانيين بعد عقود على تأليفها؟
لا ينبغي إنكار جهود الفنانين وبالقدر نفسه، ولهذه الغاية أيضاً، علينا ألّا نتهاون في تقييم المستوى ورصد أثر هذه الأغاني.
فهذه الأغاني الجديدة تظهر كأنها موجة، أو ذات إيقاع موسمي، على الرغم من نبل رسالتها. طبخة لا تزال غير ناضجة، وما دون المكوّنات التي تجعلها راسخة في وجدان اللبنانيين، وكأن تاريخ صلاحياتها ينحصر لبضع ساعات، فيما بقيت الأغاني القديمة الرفيق الأول لسرديات اللبنانيين وهمومهم.
ولناحية الالتزام، لم يجرِ توظيف هذه الأغاني لصالح أعمال الاغاثة أو للمساعدة في لملمة ذيول هذه النكبة، فظهرت وكأنها كلام لا يسمن ولا يغني من جوع، في زمن لم يعد اللبنانيون يتحمّلون فيه كلاماً إضافيا ولو غناء. ونستثني عن هذا التقييم، حفلاً افتراضياً بعنوان “أحب لبنان”، جمع الفنان البريطاني ميكا مع اللبنانيين سلمى حايك ومشروع ليلى، وكذلك فعل عازف البيانو عبد الرحمن الباشا في حفل موسيقي رائع نظمه في حدائق بلدية غورد في بروفانس.
لا يمكن سوى الاعتراف بامتياز حفل الأولمبيا، سواء في التفاعلات العارمة لدى الجمهور الذي أحدثها أسلوب هذا الحفل أو مضمونه وأيضا غايته، إذ يذهب ريع هذا الحفل “إلى الصليب الأحمر اللبناني وجمعيات تعنى بالإغاثة والتراث”، على ما صرّح إبراهيم معلوف. خطوة راقية بدون شك، مثلما هي ورقة أخرى من المبادرة الفرنسية في لبنان، وقد أصبحت الشغل الشاغل للرئيس ماكرون الذي لا يوفّر جهداً في تطويق لبنان سياسياً وشعبياً وحتى فنياً، لرجحان الكفة إلى صوب فرنسا ودورها. حفل الأولمبيا هو صورة جديدة عن لبنان ما بعد 4 آب الذي يتبنّاه الرئيس الفرنسي، تعيد إلى وجداننا حالة “الملاذ الفرنسي” مع وقفة فيروز في الأولمبيا خلال الحرب اللبنانية حين غنّت “يا فرنسا… شو بقلن لأهلك عن وطني الجريح؟”.
لذلك، لا بدّ من الاعتراف بأنّ المقارنة بين إمكانات فنان أو عدة فنانين في لبنان، وغياب رئيس الجمهورية الذي اكتفى بإرسال شكر للفنانين في الخارج، ستشفع للفنانين المحليين بتواضع الإمكانات، أمام جهود “الإليزيه” التي حشدت مواردها بعد أيام على الفاجعة لتنظيم الحفل الذي حضره الرئيس ماكرون مع زوجته وحوالي 400 مشارك اختيروا بعناية. لكن المشهد الفني بعد 4 آب، سواء في حفل الأولمبيا أو الأغاني القديمة والجديدة، يأتي بفرصة حقيقية للفنانين المحليين، لإعادة تقييم مساهمتهم الفنية، وسبب وجودهم الفني، والتفكير بصدق، وموضوعية، وجدّية، بما يمنعهم عن تنظيم عمل جماعي جميل يساعد اللبنانيين، ويرتقي بأرصدتهم الفنية والإنسانية، ليبدأوا، على الأقل، بـ”شرف المحاولة”.