حفرة الانفجار: أذنٌ عملاقة محشوّة بالطنين!

مدة القراءة 5 د


كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكتُ الريشة، أقصد موس الحلاقة، وأزلتُها…”

فينسنت فان غوغ

 

“تنيتوس”. قد يكون هذا هو الاسم الأقرب علمياً إلى ما يحدث مع معظم اللبنانيين بعد تفجير مرفأ بيروت. الـ”تنيتوس” هو الاسم العلمي لمرض طنين الأذن. يعاني المريض خلاله من طنين مستمرّ يصعب عليه شرحه للآخرين. ولا يستطيع أحد مساعدته. وحده يسمع هذا الطنين ومصدره من داخل الجسم وليس من خارجه. وغالباً ما يصاب المرء بالـ”تنيتوس” نتيجة التعرّض للضوضاء بشكل مستمرّ أو لصوت مفاجئ. واللبنانيون يتعرّضون بشكل مستمرّ لضوضاء السياسة والأمن، والصوت المفاجئ، الذي علق في آذانهم منذ الرابع من آب الماضي كان صوت الانفجار الهائل. حتى اولئك الذين كانوا بعيدين عن التفجير ولم تصل أصداؤه (تقنياً) إليهم، سمعوه لاحقاً حينما شاهدوا الفيديوات وحينما عاينوا عن قرب الدمار الهائل الذي خلّفه. للدمار حين تراه العين صوتٌ تسمعه قبل الأذن أحياناً. تسمعه العين وتنقل طنينه إلى الأذن. وصوت انفجار المرفأ من النوع الذي يستوطن طويلاً في الأذن. طنينه لا يزول، كما هي الحال مع الـ”تنيتوس”، حتى لو قطعنا عصب السمع، أي فصلنا الأذن عن الدماغ، فإنّ الصوت لن ينقطع. لا شيء يمكن أن يزيل الطنين من أذن البلاد كلها. هذا طنين جماعي في أعماق حفرة هائلة خلّفها الانفجار. يمكنكم أن تعودوا إلى الصور الجوية لانفجار المرفأ. ألا تشبه الحفرة أذناً عملاقة؟ هذه أذن بيروت، وبها تسمع المدينة الطنين المستمرّ الذي يسيطر عليها، ولا تستطيع معه شيئاً.

إقرأ أيضاً: دخان أسود في بيروت: خطاب القسَم يحترق!

بعض المصابين بالـ”تنيتوس” يقولون، بيأس لا يحتمل: “أريد القفز من الجسر”. لا يجدون سبيلاً للتخلّص من الطنين والصفير في الأذن إلا بالانتحار. بإغراق أجسادهم، التي من مكان في جوفها يخرج الصوت. ولا يسمعه أحد غيرهم. يقتلهم من الداخل، بلا رحمة، وبلا أدنى تفسير منطقي. هكذا يولد بلا سبب واضح، وقد لا يموت إلا بموت صاحبه. بكتمه بالماء الأصمّ. بالغرق. والمياه كلها، كما بلون الغرق. بعض الحالات تتخلّص من الأصوات مع العلاج في المراحل الأولى من الإصابة، لكن حالات كثيرة تصاحبها الحالة مدى العمر. بعضهم يتعايش مع الصوت. يصادقه. يصير جزءاً من تنفّسه، وبعضهم الآخر لا يستطيع الاحتمال. يقفزون.

من لم يأت الصوت، صوت الانفجار إليه، ذهبت أذنه إلى صوت الانفجار. وإذا كان صوت الجمال، همساً يتكلّم، كما يقول نيتشه، فإن صوت الخراب الذي خلّفه الانفجار، يتكلّم صراخاً باستمرار. انفجارات متتالية لا تنتهي

وحدها السلطة، التي من زمان تسدّ أذنيها لكي لا تسمع ناسها، بقيت بمنأى عن الطنين. تعيش وسدّادات الأذن تغلق منافذ الأصوات إليها. جميع الأصوات، من صوت الانفجار، إلى أنين الجرحى، إلى صراخ الأرامل والثكالى، إلى أصوات الإسعافات وتحطّم الزجاج، إلى أصوات الاعتراض في الشارع، كلها غير مسموعة بالنسبة إلى من أداروا للناس “الأذن الطرشا”، كما يقول مثل لبناني. فيما الناس يغرقون في الطنين، طنين الانفجار، وطنين الموت، وطنين الألم

في البوذية يتساءلون: هل يأتي الصّوت إلى الأُذُن أم تذهب الأُذُن إلى الصّوت؟

من لم يأت الصوت، صوت الانفجار إليه، ذهبت أذنه إلى صوت الانفجار. وإذا كان صوت الجمال، همساً يتكلّم، كما يقول نيتشه، فإن صوت الخراب الذي خلّفه الانفجار، يتكلّم صراخاً باستمرار. انفجارات متتالية لا تنتهي. أعرف أشخاصاً باتوا إذ سمعوا “طبشة” باب يتولّد في داخلهم تخصيباً للصوت حتى يصل إلى ما يعادل انفجاراً ذرّياً. تحبل الأذن بالصوت. ويكبر داخل رحمها. ثم يخرج منها متشظّياً. كطفل يصرخ صرخته الأولى. هكذا عند كلّ بذرة صوت حتى ولو كانت “طبشة” باب، يولد دويّ انفجار.

“اللحظة التي تفتح فيها عينيك هي لحظة الفاجعة”. نصّ كتبه بلال خبيز في العام 2007، يحكي فيه عن بيروت ومآلاتها بعد سلسلة أحداث أمنية وسياسية منذ اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، وضعت المدينة في عين الفاجعة. يقول خبيز إنّ “العين في متاهة المدن تشبه العين في الظلام الدامس. تصبح عضواً بعد أن تكون حاسة، على ما يقول موريس بلانشو. أي إنها تصبح عضواً فلا ترى، لكنها، وعلى غرار ما نحرّك عضلات رجلينا ونحن نسير على غير وعي منّا، ترى عيوننا كلّ ما يجري أمامنا من غير أن نحكم على ما نرى ونتأثّر به”. وينتهي خبيز إلى أنّ “اللحظة التي تصبح العين فيها حاسة في المدن، هي لحظة الفاجعة”. بلال خبيز هاجر إلى أميركا. عينه، وعيوننا جميعاً رأت الفاجعة، بحاسة النظر. هل سمع بلال صوت الانفجار في واشنطن؟ كنا قبل الانفجار، في متاهة بيروت، نملك آذاناً هي عبارة عن أعضاء، لا دور لها في خضمّ الضجيج الذي اعتدنا عليه. لا تسمع. أيقظ الانفجار حاسة السمع لدينا جميعاً. سمع بلال الانفجار في واشنطن بالتأكيد. بعد سماعه، يبدأ الطنين.

اللحظة التي تفتح فيها أذنيك هي، أيضاً، لحظة الفاجعة.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…