هي ليست قصة مستوحاة لا من فيلم رعب، ولا من كتاب خيالي. هي حصلت بالفعل، وضحيتها زوجان لبنانيان سافرا بحثاً عن لقمة العيش في تركيا، فوجدا أنفسهما بعد 11 شهراً، يبحثان عن رضيعهما محمد، الذي اختفى في أحد المستشفيات الكبرى في إسطنبول، ولم يرد له أيّ اسم حتى في قوائم المستشفى.
ابنة بيروت، جنى القوزي، التي غادرت وزوجها محمد سليم لبنان، بحثاً عن فرصة أفضل في تركيا، وهرباً من التدهور الاقتصادي، فوجئت مع زوجها بجائحة كورونا التي انتشرت حول العالم، وفرملت عمل محمد في أحد المطاعم التركية، وأوقعت العروسين في مأزق مالي. خلال هذه الأزمة كان هناك جنين ينمو في أحشاء جنى، غير أنّ القدر شاء أن يولد في الشهر السابع، ومن هنا بدأت مأساة جنى ومحمد في البحث عن طفل أنجباه، ثمّ “اختفى” في المستشفى.
إقرأ أيضاً: بطلة من كوماندوس مستشفى الحريري: رشا لم تحضن ابنتها منذ شهر
التواصل مع جنى ابنة الـ 22 عاماً كان صعباً، فصوتها المنهك، ودموعها التي لا تجفّ، صعّبت مهمة الحوار، مع أمّ لم تحتضن جنينها ولو لمرة. ورغم حرقة قلبها، تحدّثت لـ”أساس” عبر الهاتف.
تعود جنى في قصتها إلى شهر تموز الفائت، وتحديداً اليوم السابع منه، حين دخلت إلى مستشفى OKmeydani في اسطنبول بعد فحص أجرته أظهر نبضاً ضعيفاً للجنين. في المستشفى تغيّرت الرواية، وقيل لجنى إنّ النبض قد توقف، وتركت لوحدها لتلد بشكل طبيعي في غرفة غير مجهّزة وعلى سرير عادي.
الفتاة العشرينية التي خاضت آلام المخاض وحيدة، استفاقت على مولود بين قدميها، وعلى آلام تأكل جسدها، في غياب لأيّ متابعة من قبل الطبيب أو الطاقم التمريضي.
“كنت خائفة من المشهد. كان حجم الطفل صغيراً”، تقول جنى لـ”أساس”، والغصّة تخنق صوتها، مضيفة أنّه “عندما استجمعت شجاعتي لأحمل ابني. أتى الطبيب وأخذه ولم يسمح لي برؤيته أو لمسه. كانوا يريدون أخذه فوراً إلى المشرحة غير أني رفضت ذلك بشكل قاطع وطالبت بأن يأتي زوجي ويتصرّف”.
مصادر القنصلية اللبنانية في اسطنبول قالت لـ”أساس” أنّها تتابع القضية في اتجاهين، الأول عبر القنوات الرسمية التي تؤكد أنّ الطفل ولد ميتاً وأنّ وزنه لم يكن يتجاوز 500 غرام، دون جواب واضح عن الجثة
بعد إصرار جنى سمح لها بأن تتصل بزوجها، وحين وصل لم يسمح له بالاقتراب من الطفل، ما اضطره لأن يؤذّن له من بعيد، على جاري العادات حين يولد الطفل.
الطفل الذي أسماه والداه محمد، بقي في المستشفى، وخرجت جنى في اليوم التالي دون أن تراه، وفي جعبتها شهادة وفاة أعطيت على ذمّة المستشفى، على أن تعود في اليوم التالي لتستلم جثمان الطفل وتدفع الفاتورة.
لم تكن ساعات انتظار اليوم التالي سهلة بالنسبة للزوجين، ولكن ما وجداه في المستشفى كان الأصعب، ففور توجههما إلى قسم العناية الفائقة حيث كانت جنى ترقد، تفاجآ بأنّ المستشفى لم تعد تريد منهما دفع الفاتورة. أما المفاجأة الأكبر، فهي اختفاء محمد. فاسم جنى هو فقط المدوّن في السجلات، أما جنينها فلا معلومات عنه، وكأنّها لم تلده.
شهران مرّا على هذه الحادثة، وجنى ما زالت حتى اليوم تبحث عن خيط أمل، مشيرة إلى أنّ إحدى السيدات التي كانت تلد في القسم نفسه، أخبرتها أنّها سمعت الممرّضات يقلن إنّ الجنين الذي ولد ميتاً، لا يزال على قيد الحياة.
هذه المعلومة التي وصلت إلى جنى تتقاطع مع تأكيد المستشفى في اتصال معها عقب الولادة أنّ الطفل على قيد الحياة، وهو في قسم العناية المشددّة.
“أين ابني إذاً؟”، تسأل جنى دون أن تتمالك دموعها، موضحة أنّ لدى القضاء أمرين حالياً، فـ”الإمام” الذي من المفترض أنّه قد صلّى على الجنين خطّه مغلق ولا يجيب، كما أنّ هناك شكوكاً تدور حول إحدى الممرّضات.
قضية جنى أثيرت “متأخرة” في الإعلام اللبناني، وذلك يعود لسببين، الأوّل مادي. إذ لم يكن لدى الزوجين في بداية الأمر القدرة المالية لتوكيل محامٍ. وحين أمّنا المال اللازم، نصحهما المحامي بداية بعدم إثارة ضجّة. لكن بعدما لاحظ أنّ إيقاع الملف بطيء عاد وطلب منهما تحريك الموضوع إعلامياً، وعلى خلفية ذلك تواصلت السفارة اللبنانية في تركيا أوّل من أمس مع جنى ووعدتها بمتابعة القضية.
مصادر القنصلية اللبنانية في اسطنبول قالت لـ”أساس” أنّها تتابع القضية في اتجاهين، الأول عبر القنوات الرسمية التي تؤكد أنّ الطفل ولد ميتاً وأنّ وزنه لم يكن يتجاوز 500 غرام، دون جواب واضح عن الجثة وأنّ التحقيقات لا تزال جارية لتحديد المسؤولية في مستشفى الولادة. أما القناة الثانية فهي المحامي التركي الذي تولى مسألة الدفاع عن حق الزوجين اللبنانيين بمعرفة مصير الجثمان، هذا إذا ثبتت حكاية الطفل المولود ميتاً.
محامي العائلة، عبد السلام بيلان، عرف بالقصّة من أحد الأصدقاقء المشتركين، وقرّر التوكّل عن الزوجين في القضية ومساعدتهما. ويروي أنّ جنى “عانت من أوجاع في بطنها، وذهبت إلى المستشفى، وقالت لهم إنّها حامل، لكن طلبوا منها مالاً لإجراء العملية، ولأنّها لم تكن تملك المال الكافي هي وزوجها، أعادوها إلى البيت”. ويتابع: “بعد أيام عانت من الأوجاع نفسها، وعادت إلى المستشفى، واتصلت هي وزوجها بالبوليس، الذي أجبر المستشفى على استقبالها”.
ويؤكّد المحامي أنّ جنى “أنجبت طفلها وحيدة، في غرفة بلا أطباء، ثم أخذ الطبيب طفلها منها فور ولادته، إلى غرفة أخرى. وحين صرخت بوجه الطبيب، لم يردّ عليها لا هو ولا أحد من الممرّضات. ثم حين وصل زوجها إلى المستشفى سمع من الطبيب أن الطفل توفي. حينها انهارت الأم، هي التي لم ترَ طفلها مجدّداً بعد خروجه من بطنها”.
هنا تبدأ الأمور بالتعقيد. يروي المحامي: “بعدها طلبا من الطبيب رؤية الطفل، فطلب منهما المجيء في اليوم التالي لاستلام الجثة. وحين وصلا قال لهما إنّه لم يجده، وطلب منهما أن يأتيا في اليوم التالي. وهكذا كان. ومجدّداً قال الطبيب لهما إنّ الطفل قد ضاع، وطلب منهما الانتظار”.
كتبتُ في الشكوى أنّ هناك رجلاً يعمل في المستشفى وهو الإمام المسؤول عن الأموات، يصلّي عليهم ويقوم بترتيبات الجنازة. وحين سألت عنه، لأعرف إذا كان قد دفن الطفل، رفضت الإدارة أن تعطيني اسمه، وشككتُ حينها أن يكون هو قد أخذ الطفل وفعل به شيئاً
يقول المحامي إنّه عند هذه النقطة سمع بالأمر من صديق قريب من الأم جنى: “تقدّمت حينها لهم بشكوى ضدّ المستشفى لدى المدّعي العام. وبعدها، في القانون التركي، إذا أردت مقاضاة مؤسسة رسمية فعليكَ أن تنتظر نتيجة التحقيقات الداخلية. وهذه مستشفى رسمية، ولا يمكن أن يبدأ عمل المدّعي العام قبل نتيجة التحقيق الداخلي. طلبت المستشفى أسبوعاً أو أسبوعين، وأجاب بعدها بأنّ “الطفل ضاع ولا نعرف أين هو”، وأنّ “الممرضة أعطت الطفل لممرّضة، وهي أعطته لأخرى، ثم لا نعرف أين صار”.
يتابع المحامي بيلان الوقائع الغريبة: “كتبتُ في الشكوى أنّ هناك رجلاً يعمل في المستشفى وهو الإمام المسؤول عن الأموات، يصلّي عليهم ويقوم بترتيبات الجنازة. وحين سألت عنه، لأعرف إذا كان قد دفن الطفل، رفضت الإدارة أن تعطيني اسمه، وشككتُ حينها أن يكون هو قد أخذ الطفل وفعل به شيئاً”.
وبعد أن انتهى تحقيق المستشفى، كلّف المدّعي العام مديرَ الصحّة في مدينة اسطنبول أن يقوم بتحقيق جديد، وقد بعثوا طبيباً للتحقيق مع الجميع في المستشفى إلى أن نعرف مصير الطفل، والتحقيق لا يزال مستمرّاً، وبعد الأجوبة من التحقيق الثاني، سنرى ما الذي سيحصل. حنها يمكن للمدّعي العام أن يبدأ في محاكمة المتورّطين، وربما يلقي القبض على بعض العاملين في المستشفى”.
في هذه الأثناء فإنّ الشابة العشرينية، التي ستدخل في 18 أيلول عامها الـ23، تتحدّث بحرقة عن همّها: “قلبي حيوقف. بدي أعرف مصير ابني. صرت عايشة عأدوية الأعصاب وأدوية المنوم”.
في السياق نفسه تكشف جنى عن خوفها من مغادرة تركيا قبل أن تعرف مصير ابنها، هي التي انتهت صلاحية إقامتها، ولم تجد حتى الآن لا هي ولا زوجها أيّ عمل يسترزقان منه.
في هذه الأثناء يبقى مصير محمد مجهولاً، الذي لا نعرف إذا كان حيّا أو ميتاً، ولا نعرف له جثّة ولا قبر، ولا إمكانية لتبريد لهيب قلب أمّه بغير تدخّل على أعلى المستويات بين لبنان وتركيا. وقد حاول”أساس” الاتصال بسفير لبنان في تركيا، غسان المعلّم لكنّ خطّه مقفل.