لبنان: كلّ شيء تحت السيطرة

مدة القراءة 5 د


يتصرّف من بيدهم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، وكأن لا شيء قد هزّ مشروعيتهم السياسية على الإطلاق. فلا الانهيار المالي هم مسؤولون عنه، ولا الفشل الإداري، ولا الخيارات الداخلية أو الخارجية. ولم يسمعوا بثورة شعبية قالت فيهم ما لم يقله الشاعر الحُطيئة في أعدائه. ولا يعترفون بزلزال تاريخي في بيروت، هو من صناعتهم حصراً، وقد دمّر شطراً من العاصمة، وروّع جميع السكّان، وأصابهم بأنواع مختلفة من الاضطرابات النفسية المستدامة. وما زالوا يحكمون بأدوات قديمة علاها الصدأ. وما زالوا يطالبون بحقوق كانت تحت أيديهم سنوات طويلة، ولم يحاولوا نيلها، ولا يريدونها. بل يُعجبهم المكوث في خانة الحرمان الدستوري، كي يبقوا مناضلين. إنّ اتفاق الطائف ليس مكسباً سنياً خالصاً، بل آلية واقعية للمساواة بين كلّ الطوائف كما بين الأفراد، بإلغاء الطائفية السياسية، لو أرادوا ذلك. لكنهم دفنوه تحت الغبار، كي تستمرّ “الثورة” وتخفق الرايات. وذلك، بدلاً من استعمال فائض القوة لبناء الدولة العادلة.

إقرأ أيضاً: “الوسطية” أو فنّ الواقعية السياسية

بالمقابل، يتصرّف الثائرون على الطبقة السياسية، بإحباطِ من لم يفعل شيئاً، أو من لم يستطع إنجاز شيء. لا يكفّون عن التذمّر وعن الشكوى. ولا يتوقفون عن المطالبة بإسقاط شامل كامل للنظام وللطبقة الحاكمة، ولو بانقلاب من داخل أو احتلال من خارج. أطلقوا الشعارات فامتلكتهم. أعمت بصائرهم فلم يعودوا يرون كم بدّل الشارع الثائر من المعطيات السياسية الداخلية والخارجية. لا يدركون أنّ باريس وواشنطن باتتا تتحدّثان بهذه الشعارات عينها: حكومة مستقلين عن الأحزاب، حكومة اختصاصيين ذوي كفاية، وتنظيم انتخابات نيابية مبكرة. محاسبة الفاسدين ومعاقبتهم، وفي أقل تقدير حرمانهم من امتيازاتهم السياسية ولو لمدّة محدّدة!

الحاكمون والمحكومون كلاهما لا يعترفون بالواقع. لم يعد بمستطاع المتحكّمين الاستمرار بالطريقة نفسها دون أن ينهار لبنان كما نعرفه. بل إنّ العودة الآمنة لا تكون إلا بتطبيق الدستور نصاً وروحاً، وتطبيق القوانين. وليس بمقدور المحكومين المقهورين الحلم بأكثر من تحسين الظروف تدريجياً، بنضال متواصل لأجيال متعاقبة، وليس بمجرّد تظاهرة حاشدة حاسمة ذات ليلة. ويبدأ التغيير السياسي أولاً في تبديل ذهنية المواطن العادي المرتهن لزعيمه بدلاً من رهانه على الدولة، بشرط إقامة تلك الدولة.

يتصرّف من بيدهم السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في البلاد، وكأن لا شيء قد هزّ مشروعيتهم السياسية على الإطلاق. فلا الانهيار المالي هم مسؤولون عنه، ولا الفشل الإداري، ولا الخيارات الداخلية أو الخارجية

من جهة أخرى، فإن جدول أعمال المخلّص، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حافل بالمعضلات الداخلية والخارجية المعقّدة. وهو رأى في أزمة لبنان فسحة عاطفية واستراتيجية في آن. نزل إلى شوارع بيروت والتقى الثوار، ودندن حول المطالب وما هو ممكن وما هو لا، داعياً لتنظيم صفوفهم، وكأنه يحاور السترات الصفر غداة انتخابه رئيساً، فعاد ثوار باريس إلى الشوارع ليذكّروه بمشكلته هو معهم. جاء إلى مرفأ بيروت المدمّر وعينه على أردوغان الغازي في شرق المتوسط تمخر سفنه البحر بحثاً عن الثروات والطموحات الإمبراطورية، فكادت أن تنقدح شرارة حرب كبرى، ولبنان في أتونها. اعتقد أنّ اللبنانيين قد وعوا الدرس أخيراً بعد مائة عام من الفشل، ففوجئ بأنّ التلاميذ ما زالوا يتعتعون في المرحلة الابتدائية ولما يتجاوزوها!

قال لهم بالحرف الواحد: أنتم تغرقون ولا أحد غيري يعطف عليكم. أعطوني حكومة ذات مهمة وحيدة، هي الإنقاذ. تخلّوا عن مقاعدكم ومكاسبكم وأعرافكم ولو لأشهر قليلة. ترفّعوا عن عنعناتكم التافهة وجشعكم بالسلطة ومكاسبها أمام المصيبة الجائحة لمدّة محدّدة فقط، وبعدها عودوا إلى ألعابكم إن شئتم. انسوا أنكم من تحكمون بأغلبية نيابية بقانون انتخابي نعرف كيف صممتموه على المقياس، وتناسوا أنكم تزعمون أنكم دولة ديموقراطية ذات سيادة على كل الأرض وعلى كلّ الناس. انسوا كلّ ذلك، إلى أن تمرّ العاصفة، فنعرف من هو الرئيس الجديد لواشنطن، فيُبنى على الشيء مقتضاه. 

العودة الآمنة لا تكون إلا بتطبيق الدستور نصاً وروحاً، وتطبيق القوانين. وليس بمقدور المحكومين المقهورين الحلم بأكثر من تحسين الظروف تدريجياً، بنضال متواصل لأجيال متعاقبة، وليس بمجرّد تظاهرة حاشدة حاسمة ذات ليلة

أغراهم الحديث في البداية. وبعقلية منطق المؤامرة، اعتقدوا لوهلة أنّ الأميركيين يغازلونهم بلسان فرنسي. وأنّ دونالد ترامب يخشى الخسارة أمام منافسه العجوز جو بايدن، فيريد تهدئة اللعب، وتمرير الانتخابات الرئاسية بسلام. وأنّ الحديث المتكرّر عن عقوبات تنال من الصغار إلى الكبار، مجرّد تمويه عما يجري وراء الأبواب. لكنهم فوجئوا، فهدّدوا بتدمير لبنان بمن فيه وهم منه، على رأس ماكرون!

“لا يظنّن أحد أننا نتساهل مع المبادرة الفرنسية من موقع الضعف، بل من أجل مواطنينا والبلد، وإلا فأمورنا بألف خير.. وكلّ شيء تحت السيطرة”!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…