“السرّية” قيمة مطلقة يحملها في حمضه النووي. هذا ما لم يتردّد في قوله، بل الاعتداد بما يعكسه من مناقبية مهنية، في حوار أخير على صفحات “لوفيغارو”. إنه مدير وكالة الاستخبارات الخارجية الفرنسية، برنارد إيمييه، السفير السابق في لبنان، الذي يحيك قطبًا ما عادت مخفية لتشكيل الحكومة العتيدة في لبنان… لكن كيف؟
أفادت وكالة “رويترز” نقلاً عن مصادر لبنانية، أنّ إيمييه انضمّ الى الجهود الرامية لدفع لبنان نحو تشكيل حكومة مصطفى أديب، وإجراء إصلاحات، لدعم مساعي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإخراج البلد من أزمته الطاحنة. ما يحمل على استنتاج أنّ المشهد العاطفيّ متعدّد الأوجه الّذي لعب بطولته ماكرون منذ زيارته الأولى لبيروت، يحمل تحت قشرته جوهرًا صلبًا أوكلت شؤونه لبرنارد إيمييه، وتحديدًا في ملفّ الحكومة اللبنانية.
إقرأ أيضاً: مربط خيلنا في باريس.. لا حكومة ولا اعتذار السبت
قبل تعيينه عام2017 لقيادة الشؤون الاستخباراتية الفرنسية في الخارج، وهي تشبه في عملها الـ CIA الأميركية، شكّل إيمييه حضورًا دبلوماسيًا لامعًا في الجزائر والأردن ولبنان وتركيا وبريطانيا حيث عمل سفيرًا لفرنسا في كلّ هذه البلاد. كوّن علاقات مع المسؤولين العرب حين اتخذه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك مستشارًا لشؤون الشرق الأوسط، بعد أن حلّ مديرًا لقسم الشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية. وإيمييه من وزن السياسيين المتفانين الذين يمسكون بثقة رؤسائهم على مرّ العهود، يعتبر أنّ وزير الخارجية اللامع في عهد ميتران، آلان جوبيه، معلّمه “في الديبلوماسية وفي إدمان العمل”.
يتمتع إيمييه بسيرة ذاتية مخضرمة في تفكيك الألغام اللبنانية. يتقن الدخول الرشيق في أدق المنعطفات اللبنانية، ويخرج ظافرًا بما تريد فرنسا
إنّه الرجل المناسب في كلّ مكان يناسب فرنسا. يتكلّم قليلًا ويفعل الكثير. في ملامحه الهادئة الّتي لا تنبس إلا بالكلمة اللازمة، يفي إيمييه بالصورة النمطية لدبلوماسي فرنسي أو بريطاني عالي المستوى، يحظى بثقة رؤسائه لأنه بئر عميقة. في مقابلة حديثة في مجلة “إيميل ماغازين” الصادرة عن خرّيجي معهد الدراسات السياسية بباريس، يرد ما يؤكّد أنّ إيمييه جدير بموقعه إلى حدّ التماهي: “تتحدّث المديرية العامة للأمن الخارجي عن ماهيتها، ولكن ليس عما تفعله، ولا عمّا تعرفه”.
يتمتع إيمييه بسيرة ذاتية مخضرمة في تفكيك الألغام اللبنانية. يتقن الدخول الرشيق في أدق المنعطفات اللبنانية، ويخرج ظافرًا بما تريد فرنسا. من مساهمات إيمييه الشائكة في الملف اللبناني، بداياته مع الرئيس الراحل شيراك الذي تحدّث عنها في مذكراته، كاشفًا أنه في عام 2004، كان يبحث مع الرئيس رفيق الحريري السبل التي تدفع بمجلس الأمن للتصويت على قرار يجبر سوريا على سحب قواتها من لبنان، في ضوء عدم رضى أميركي على الرئيس الفرنسي بعدما عارض تدخلهم في العراق. فلجأ شيراك الى وساطة أنيقة ومفوّهة وأهل للثقة، تجسّدت بإيمييه، الذي زار واشنطن في شباط 2004، ونقل تجاوب أميركا فتمخّضت مساعيه عن القرار 1559 مع كلّ تداعياته. موقف أكّد لشيراك حرفيّة إيمييه في الملف اللبناني، فعيّنه سفيرًا اؤتمن على تنفيذ سياسة الرئيس الفرنسي في لبنان في عهد صديقه الحريري.
أخلاقيات أجهزته الاستخباراتية تلخّص بـ”العمل السري والمقاومة السرية” حسبما جاء في حوار “لوفيغارو” آنف الذكر، الذي جرى مع مسؤول “نادر الكلام”. كان إيمييه يشرح بالتفصيل كيف أنّ “الاستخبارات ونشاط عملائها في الخارج لا يزالان أدوات رئيسية للدفاع عن استقلال فرنسا وسيادتها”، وذلك بمناسبة خطاب 18 حزيران الشهير الّذي أسس للمقاومة الفرنسية الداخلية والخارجية على لسان الجنرال ديغول، عرّاب لبنان الكبير والّذي استخدم عام 1965 الكلمات المفتاحية نفسها ليرسم وطنًا “مستقلًّا”، مزدهرًا ومثقفًا. إنما واقع الحال، بقيت فرنسا وصية على شؤونه بعد مئة سنة على تأسيسه. حقيقة وعكسها أو كلام حقّ يراد به باطل.
إنّها استراتيجية أبناء الجمهورية الديغولية بشخص قائد استخباراتها الذي بقي وفيًا للنهج نفسه، وكذلك فعل ماكرون في كلّ خطاباته بعد انفجار المرفأ
ثمّة تناقض آخر يبرز في تعاطي إيمييه مع السياسة الجزائرية. ففي مقابلة على محطّة CNN، يؤكّد أنّ “العلاقات اليوم ممتازة بين فرنسا والجزائر. نحن نتحدّث عن شراكة استثنائية يريدها رئيسا الجمهوريتين” مشدّدًا على “رابط إنساني” موجود بين الشعبين. على المقلب الآخر، لم يتحرّر إيمييه من سلوكه الاستعلائي الذي يذكّر بالاستعمار، في موقف مخالف للقواعد الدبلوماسية وقع عام 2015 في مطار أورلي، حين قامت الأجهزة بتفتيش الوزير الجزائري حميد قرين على الرغم من إبرازه جواز سفر دبلوماسياً، وهو ثالث إساءة استنكرتها الخارجية الجزائرية خلال تولّيه منصب سفير فرنسا في الجزائر.
إنّها استراتيجية أبناء الجمهورية الديغولية بشخص قائد استخباراتها الذي بقي وفيًا للنهج نفسه، وكذلك فعل ماكرون في كلّ خطاباته بعد انفجار المرفأ. وكان كتب في مذكّراته عن تأثره بالفيلسوف “بول ريكور”، المشهور بنهجه في جمع آراء متناقضة ثم التوفيق بينها. وهكذا يجري التعاطي مع سيادة لبنان التي تحرص الأم الحنون عليها، فيما تسترضي من تحت الطاولة وفوقها حزب الله وتغضّ الطرف عن سلاحه وهيمنته حتى الآن على الأقل.
وفي هذه الأبعاد تتشكّل حكومة لبنان، وسط تكتّم نادر ترعاه فرنسا، على صورة مفوّضها السّامي الجديد برنارد إيمييه.