منذ مؤتمر باريس1 عام 2001 وفرنسا تؤدي دور “الكفيل المالي” للبنان الرسمي. تعايش نظام الكفالة الفرنسي للبنان مع نظام الوصاية السورية على لبنان، ومع نظام التأرجح بين الانقسام والتغلّب الفئوي في فترة ما بعد الوصاية. تعايش مع تغيّر الرؤساء والحكومات والسياسات في فرنسا نفسها. وصل نظام الكفالة الفرنسية المالية للبنان إلى لحظة ذروته مع مؤتمر باريس4، أو “سيدر” 2018. مع سيدر صارت شروط مدّ الاقتصاد اللبناني بالمنح والقروض أكثر صرامة مما كانت عليه الحال قبل ذلك، وصارت قدرة التركيبة اللبنانية ككلّ على النهوض بهذه الشروط أصعب من قبل في الوقت نفسه. بل إنّ حركة مضادة عملياً لسيدر قامت من على يمينها، وتجلّت في أسلوب المعالجة الذي ساد في قطاعي الكهرباء والاتصالات، كما على صعيد الموانئ والمعابر الحدودية. شيئاً فشيئاً، لم يعد سيدر كافياً لوحده لإنقاذ النظام. وصار النظام، سواء عنينا به مؤسسات الدولة أو ما يوازيها أو ما يستتبعها له، أكثر تعثّراً في إيفاء إصلاحات سيدر مرتباتها، وأقل قدرة في الوقت نفسه على الانفكاك عن هذه الإصلاحات أو إيجاد بدائل عنها. انسجم ذلك مع استحقاق كلّ أنواع الأزمات في وقت واحد، من استفحال خدمة الدين العام، إلى شحّ الدولار، إلى العجز عن ضبط الإنفاق، إلى تداعيات الانعزال العربي والغربي للبلد، ناهيك عن الافتقاد المزمن لسياسات اجتماعية في مقابل انتفاخة محاصصاتية للقطاع العام. وكلّ هذا على خلفية انشطار عميق سواء على صعيد القوى السياسية أو على الصعيد المجتمعي بين خيارات انتمائية إقليمية متعارضة تماماً.
إقرأ أيضاً: حكومة ربطات العنق الباريسية بمباركة نصر الله
أياً يكن الموقع الذي ينطلق منه المرء لتقييم زيارتي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، لا يجوز فصل تفاصيل وأجواء وتوقّعات وانتظارات وإحباطات الزيارتين عن المعطى الأساسي المتمثّل في أنّ سياسة فرنسا تجاه لبنان مرتبطة أساساً بأنها الدولة “الكفيلة” مالياً للنظام اللبناني، المالي والسياسي، منذ باريس1، إلى اليوم. كلّ النقاش إذا كانت فرنسا تمارس نفوذها اليوم كقوة استعمارية سابقة أو كدولة صديقة، يفقد صلة وصله السياسية إذا تمّ تضييع هذه السمة الأساسية، والمزمنة.
سواء اشتاقت فرنسا لأدوار انتدابية جديدة على لبنان أو لم تشتَق، فالأساس في النظرة إلى موقعها من الإعراب أنّها دولة كفيلة مالياً لدولته، أو لنظامه، ودولة تتحمّل بشكل أو بآخر هي أيضاً مسؤولية الاستمرار في كفالتها هذه
عشرون عاماَ الآن، لهذا الدور، كدولة أقامت منذ 2001 مع لبنان علاقة كفالة. الكفيل الفرنسي تعايش مع الوصيّ السوري، ثم تعايش مع اتّساع رقعة النفوذ الإيراني على لبنان، مثلما هو متعايش مع النفوذ الأميركي فيه. يبقى أنّه، وأياً كانت نظرة الوصاية السورية أو النفوذ الإيراني الى هذا الدور، دور الكفالة الفرنسي، فإنهما بقيا بمنأى عن التصادم مع هذا الدور.
وسواء اشتاقت فرنسا لأدوار انتدابية جديدة على لبنان أو لم تشتَق، فالأساس في النظرة إلى موقعها من الإعراب أنّها دولة كفيلة مالياً لدولته، أو لنظامه، ودولة تتحمّل بشكل أو بآخر هي أيضاً مسؤولية الاستمرار في كفالتها هذه، وتجديد شبابها في كلّ مرة، في مقابل تردّي أوضاع المكفول أكثر فأكثر.
أكثر من ذلك: الأبهة العاطفية، الزجرية “للطبقة السياسية”، على مائدتها، التي أقبل عليها إيمانويل ماكرون، وإكثار الحديث عن مواكبة فرنسية لعملية فرط الحكومة السابقة وتسريع تشكيل الحكومة العتيدة، يجب ألا تخفي أنه في وقت تحاكي هذه الأبهة صورة من صور الوصاية، إلا أنّها تعبّر عن أزمة نظام الكفالة الفرنسي نفسه تجاه لبنان. من جهة، ليس سهلاً على الكفيل الفرنسي أن يواصل دوره هذا في وقت ليس هناك طاقم حاكم بمستطاعه تلبية الحدّ الأدنى من الشروط المنصوص عليها في مؤتمر سيدر، فكم بالأحرى بالنسبة إلى الشروط المتوقّعة بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي. ومن جهة ثانية، ليس سهلاً على الكفيل الفرنسي إبطال دوره هذا، ففيه مصالح متشابكة، وموطئ قدم لنفوذ لا يستهان به. الأسلوب التربوي – المدرسي الذي استعاره ماكرون في زيارتيه، لا يلغي أبداً هذه الإشكالية، بل يعزّز طابعها التناقضي أكثر فأكثر. يقول لنا هذا الأسلوب إنّ فرنسا تريد الآن أن تعرف ما اذا كان بالإمكان أن تقوم حكومة في لبنان، تراعي شروط سيدر وصندوق النقد والأفكار الفرنسية الأخيرة، كي يبنى على الشيء مقتضاه.
يعيش نظام الكفالة الفرنسي للبنان استحقاق نهايته أيضاً. فهذه الحكومة العتيدة التي يراد منها تحقيق المطلوب منها في سيدر وصندوق النقد والخطة الفرنسية الجديدة، تبدو حكومة خيالية، اللهم إلا إذا أرادت فرنسا “التصرّف بشكل مجازي” مع هذه الشروط المحدّدة للدعم المالي، وهذا عبث
لكنّ فرنسا تدرك، أو يفترض أنها تدرك، أنّ هذا لن يتأمّن، وليس للتركيبة القائمة أيّ قدرة على تأمينه. وأيّا يكن من شيء بالنسبة إلى تشديد ماكرون على أنّ حزب الله ركن فعلي في الواقع اللبناني، وهو ما يفترض أن لا ينكره أحد، فإنّ التعايش الفعلي بين الكفالة الفرنسية وبين النفوذ الايراني، ومن قبله الوصاية السورية، عمره 20 عاماً اليوم. وهذا التعايش الذي دخل في مرحلة حساسة منذ إقرار مؤتمر سيدر، وأكثر فأكثر مع وقائع الانهيار المالي المتعاقبة في لبنان، ثم كارثة 4 آب العدوانية والإجرامية، لم يعد من المفهوم كيف يمكنه أن يتماشى مع تجديد شباب نظام الكفالة الفرنسي للبنان مرة جديدة، ولسنوات إضافية. لأجل هذا، ثمة مشهديتان مختلفتان كليّاً. من جهة، بعد 4 آب، يبدو أنّ هناك سياسة فرنسية جديدة للبنان تجد بدايتها في زيارتي ماكرون، وعموم الحركة الفرنسية تجاه البلد. لكن من جهة ثانية، يعيش نظام الكفالة الفرنسي للبنان استحقاق نهايته أيضاً. فهذه الحكومة العتيدة التي يراد منها تحقيق المطلوب منها في سيدر وصندوق النقد والخطة الفرنسية الجديدة، تبدو حكومة خيالية، اللهم إلا إذا أرادت فرنسا “التصرّف بشكل مجازي” مع هذه الشروط المحدّدة للدعم المالي، وهذا عبث.