المئوية: شيعة جبل عامل ولبنان الكبير

مدة القراءة 6 د


 في كانون الأول من عام 1921، بعد عام تقريباً من إعلان لبنان الكبير، وقّع فريق من علماء جبل عامل وأعيانه عريضة وجّهوها إلى الجنرال غورو قبل سفره، وإلى القومندان جورج ترابو حاكم لبنان الكبير، وإلى متصرّف لواء لبنان الجنوبي توفيق أرسلان وإلى مستشاره ألبرت شدياق. العريضة كما جاء ملخّصها في مجلة “العرفان” (العدد الثالث، عام 1340هـ/1921م)، تؤرّخ وضع الشيعة عموماً، وشيعة جبل عامل خاصة في تلك المرحلة، وتتضمّن المطالب التالية:

– إنّهم (أي الشيعة) يشكّلون الأكثرية أو هم في الدرجة الثانية من مجموع سكان لبنان الكبير. يدفعون ما يقرب من نصف واردات بيت المال (خزينة الدولة). ومع ذلك، لغيرهم الغُنم، وعليهم الغُرم.

– لا يوجد منهم موظف قط في العاصمة، لا كبير ولا صغير. وموظفوهم في لواء لبنان الجنوبي قليلون جداً، بل عُزل بعضهم لغير سبب.

– سوء حالة المعارف (القطاع التربوي) وسوء حالة الطرق، مع ما يدفعونه من ضرائب.

– زيادة الضرائب زيادة باهظة لا تتحمّلها حالة البلاد الاقتصادية. فإن كان الذنب ما فعله بعض الجهلاء (أي ما فعلته المجموعات المسلحة الشيعية المناهضة للانتداب في القرى المسيحية لا سيما قرية عين إبل)، فقد عوقب البريء قبل المسيء، وتحمّلوا غرامة فادحة، وحُصّلت أضعافاً مضاعفة (أي من الجباة الذين جاؤوا من لبنان الصغير بحسب تعبير الخبر الوارد في العددين 5 و6 من مجلة العرفان، 1339هـ/1921م، فتفنّنوا في تحصيلها بما لم يسبقهم إليها الحجّاج [حاكم العراق أيام الأمويين] ولا نيرون [حاكم روما]. ويضيف: إنّ الشيعة في لواء صيدا الجنوبي هم الأكثرية الساحقة، لكن تخلو منهم كلّ الدوائر، ولم يبقَ في محكمة صيدا شيعي واحد حتى ولا كاتب بسيط).

إقرأ أيضاً: إرباك المئة: عقبال المئتين؟!

وعليه، بدأت حكاية مظلومية أخرى للشيعة، مع انطلاق مركب لبنان الكبير، حين اختار بعضهم النهج المسلّح غير المتكافئ طبعاً ضدّ القوات الفرنسية كما ضدّ الموالين لسلطة الانتداب، وانتصاراً للملك فيصل بن الشريف الحسين في دمشق، بخلاف رأي كبار علمائها مثل السيد عبد الحسين شرف الدين (ت 1957)، وبعض كبار زعمائها مثل كامل بن خليل الأسعد (ت 1924).

فما بين رفض بعض الموارنة ضمّ جبل عامل حتّى لا يضيفوا جبلاً على جبل، وفيه 80 ألف شيعي كما جاء في رسالة المطران عبد الله الخوري عام 1920 إلى البطريرك الحويك، وضرورة ضمّ هذا الجبل حتى لا يسقط بيد الانتداب البريطاني ومن ورائه الصهاينة (لويس صليبا، “لبنان الكبير أم لبنان خطأ كبير”)، وعقب الحملة العسكرية الفرنسية التي ناءت بكلكلها على قرى الجنوب، اعتقالاً وإعداماً ومصادرة وتغريماً كما جاء في شهادة السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابه “بغية الراغبين”… بدا أنّ الشيعة لم يدخلوا إلى لبنان الكبير مرغَمين وحسب، بل أُدخلوا إليه بالقوّة العسكرية القاهرة، ومن دون أيّ حقوق أو مقايضات. ولأنهم كذلك، فقد اختطّوا سيرة حرمان، ستطبع تاريخ لبنان الحديث، وسترسم جملة الوقائع المعاصرة، وإلى أيامنا.

الأسعد لم يكن مستعدّاً لأيّ جواب، واستمهل الثوّار، وتذرّع بضرورة استشارة العلماء وباقي الزعماء. فتهيّأ المناخ لعقد مؤتمر الحجير، وهو منطقة متوسطة في جبل عامل

أما مؤتمر وادي الحجير، في 24 نيسان عام 1920، أي قبل ثلاثة أشهر من معركة ميسلون الفاصلة (24 تموز) بين الجيش العربي الناشئ والجيوش الفرنسية المتفوّقة، وما جرى فيه من محاولة بناء موقف تأسيسي لشيعة جبل عامل، فيشرح ملابساته السيّد شرف الدين، في كتابه “بغية الراغبين”، وملخّصه أنّ إشاعات كانت تسري في جبل عامل عن أنّ الموالين لفرنسا ينتهكون المقدّسات الإسلامية وأموراً أخرى، وهو ما لم يكن ممكناً التأكد منه. فثارت العصبية الدينية والنخوة العربية من جانب الشيعة، وساد الخوف بين المسيحيين، وسلّحت فرنسا الطرفين إلى هذه الدرجة أو تلك. زاد على ذلك، أنّ عشائر الفضل في المنطقة الشرقية، ضغطوا على الزعيم العاملي كامل بك الأسعد، فإما أن ينضمّ إلى الثورة ضدّ فرنسا، أو أن يعتزل الثورة فيصبح هدفاً للثوّار قبل فرنسا. الأسعد لم يكن مستعدّاً لأيّ جواب، واستمهل الثوّار، وتذرّع بضرورة استشارة العلماء وباقي الزعماء. فتهيّأ المناخ لعقد مؤتمر الحجير، وهو منطقة متوسطة في جبل عامل. وكان الهدف الرئيس منه، كما يبدو من شهادة السيّد شرف الدين، هو ضبط الأوضاع والاعتصام بالعصيان المدني الشامل، ريثما تحصل مشاورة الأمير فيصل في دمشق، بوساطة وفد يضمّ السيّد شرف الدين، والسيّد محسن الأمين، والسيّد عبد الحسين نور الدين. وفي المؤتمر، أخذ السيّد شرف الدين على العلماء والزعماء، الركون إلى الهدوء وحفظ سلامة النصارى على وجه خاص. واستدعى رؤوس الثوّار: صادق حمزة وأدهم خنجر ومحمود الأحمد، وطلب منهم الكفّ عما هم فيه، وهدّدهم بالمصادرة والعقوبة والمطاردة. لكن مع سفر الوفد إلى دمشق، تدحرجت الأحداث، ووقعت المجزرة في قرية عين إبل المسيحية، وسقط فيها أكثر من 100 قتيل. فكانت تلك ذريعة لفرنسا كي تجتاح الجنوب، بقيادة الكولونيل الفرنسي نيجر، وتحاول القبض على السيّد شرف الدين. وحكمت فرنسا بالنفي المؤبد عليه وعلى السيّد نور الدين وعلى كامل بك الأسعد وآخرين. ونجحت في القبض على بعض فتيان الثوّار وأعدمتهم. وفرضت غرامة ثقيلة على سكّان جبل عامل، مقدارها 200 ألف ذهبية، وصلت إلى أكثر من 500 ألف ذهبية، والزيادة استحصلها السماسرة.

في عام 1925، بدأ التمايز الشيعي يظهر، فلم يشارك الشيعة في أحداث الثورة السورية الكبرى، على نحوٍ خاص

هذه الحادثة المفصلية، دخلت في الأدبيات الشيعية وحفرت عميقاً في الذاكرة الشعبية، وأُضيفت إلى قصص الاضطهاد السلجوقي والزنكي والأيوبي والمملوكي والعثماني للشيعة. في حين أنّ تداول السلطة في زمن تهاوي السلطة العباسية في بغداد، بات شائعاً بين الإمارات السنية والشيعية في بلاد الشام، وفي جبل لبنان وساحله على مدى قرون. ومع قيام دولة بني عمار الشيعية في طرابلس، وانتشار النفوذ الفاطمي على طول الساحل، قبل مجيء الحملات الصليبية، استوئف الصراع مع وصول المماليك بعد الأيوبيين، والحملات الشهيرة على معاقل الشيعة في كسروان. وفي مرحلة تاريخية ما، كان الإقطاعيون الشيعة يحكمون على نحوٍ مستمرّ تقريباً مساحات شاسعة من طرابلس إلى جبل عامل، وصولاً إلى البقاع. لكنّ عهدي فخر الدين المعني الثاني، والأمير بشير الشهابي، كانا عصر التمدّد الماروني في كلّ تلك الأصقاع تدريجياُ (يُنظر كتاب سعدون حمادة، “تاريخ الشيعة في لبنان”).

في عام 1925، بدأ التمايز الشيعي يظهر، فلم يشارك الشيعة في أحداث الثورة السورية الكبرى، على نحوٍ خاص. وفي مقابل المقاطعة السنية للاستمارات التي وزّعها الانتداب بشأن وضع الدستور في العام التالي، تأييداً للموقف السوري، ظهرت عريضة موقّعة من مئات عدة من الشخصيات الشيعية العاملية ومنهم سياسيون بارزون، تطالب بإنشاء إدارة ذاتية لجبل عامل تحت الإدارة الفرنسية، وفصله عن لبنان، بما يشابه في تلك المرحلة حكومة جبل الدروز، وحكومة العلويين (تمارا الشلبي، “شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية 1918-1943”).

مواضيع ذات صلة

“إنزال” في البرلمان: التّمديد لقائد الجيش

يترافق سقوط مفاوضات وقف إطلاق النار مع انكشاف أمنيّ وعسكري وسياسي كامل، عبّر عنه بالسياسة النائب السابق وليد جنبلاط بقوله إنّ “آموس هوكستين تآمر علينا…

وقف إطلاق النّار… بين الضّغط الأميركيّ وضغوط الميدان

أُقفِل باب المفاوضات الدبلوماسية لتُترك الكلمة للميدان. بالأساس، لم يكن كبيراً الرهان على تحقيق خرق جدّي قبل أيام معدودة من فتح صناديق الاقتراع في السباق…

نعيم قاسم: هادئ وصلب ومتعدّد المشارب الفكرية

يختلف الشيخ نعيم قاسم عن سلفه السيّد حسن نصر الله، من حيث خصائص الشخصية ومشارب التنشئة، مع أنّ كليهما كانا عضوين قياديين في حركة أمل،…

“الحزب” لرئيس الحكومة: إصرِف من جيْب الحكومة!

بين الميدان وغرف المفاوضات المُحصّنة في تل أبيب و”الثلاثاء الأميركي الكبير”، سقطت الرهانات على وقف لإطلاق النار يسبق فتح صناديق الاقتراع في الولايات المتحدة الأميركية….