لا يتغيّر جبران باسيل. يسقط سدّ بسري فلا يبدي صهر الرئيس استعداداً للاتعاظ والبحث عن بدائل، بل يصرّ على أن لا بديل تحت الشمس إلا أن “نعود إلى السدّ نفسه بالشروط نفسها، ولكن بكلفة أعلى بكثير”.
إقرأ أيضاً: سدّ بسري (2/2): باسيل ينسف حقوق البقاع والجنوب وعكار
تغريدة باسيل أمس تضرب رقماً قياسياً في حجم التضليل الذي يمكن أن تجمعه أسطر قليلة. فهو أوحى أنّ سقوط المشروع ليس له من سبب إلا “النكد السياسي”، وفي ذلك تعمية على ما أوضحه البنك الدولي من أسباب لإلغاء ما تبقّى من القرض المخصّص للمشروع، والبالغ 244 مليون دولار.
إلغاء التمويل سببه تقصير الحكومة في تقديم خطة مقبولة للتعويض الأيكولوجي والترتيبات للتشغيل والصيانة
يحدّد البنك الدولي في بيانه ثلاثة أسباب لإلغاء تمويله للمشروع:
– الأول، عدم انتهاء الحكومة اللبنانية من وضع خطة التعويض الإيكولوجي وفقاً للإجراءات القانونية الواجبة وبالتشاور مع أصحاب المصلحة الرئيسيّين (stakeholders)، أي أهالي المنطقة المحيطة بالسدّ والمتأثرين به، في موعد أقصاه 4 أيلول 2020. ما حصل أنّ الحكومة لم تقدّم مسودّة خطة التعويض الإيكولوجي إلا في 12 آب الفائت، أي بعد فوات المهلة الأولى في 22 تموز، وتلقت ملاحظات من البنك الدولي عليها في 25 منه، من دون أن تعالجها ضمن المهلة الجديدة الممدّدة حتى 4 أيلول. كما أنّ الحكومة لم تجر المشاورات التي اشترطها البنك الدولي مع أصحاب المصلحة، بل عقدت جلسة يتيمة معهم، انسحبت منها وزيرة الإعلام المستقيلة منال عبد الصمد في واقعة معروفة.
– السبب الثاني للإلغاء أنّ مذكرة التفاهم لترتيبات تشغيل السدّ وصيانته التي تقدّمت بها الحكومة أتت مخالفة لاتفاقية القرض مع البنك الدولي. ولم تلتزم الحكومة بتقديم ترتيبات مرضية في المهلة التي حدّدها البنك الدولي بحلول 24 آب الفائت.
ويجب الالتفات هنا إلى أنّ شروط البنك الدولي في هذا الصدد كانت ضرورية لتفادي الفشل الذي مني به سدّا المسيلحة وبريصا، ولتفادي تكرار سجل الفشل المريع للإدارات اللبنانية في إدارة مشاريع منجزة، مثل مشاريع محطات معالجة الصرف الصحي، التي أنفقت عليها مئات ملايين الدولارات، ولم تدخل حيّز التشغيل.
– السبب الثالث عدم التحاق المقاول بموقع العمل.
الواضح أنّ اثنين من الأسباب الثلاثة يعودان إلى تقصير وزارة الطاقة، وليس لأيّ طرف سياسي آخر غير التيار الوطني الحرّ مسؤولية عنه. ولا يُلام الوزير في الحكومة المستقيلة ريمون غجر وحده، بل إنّ التقصير عائد إلى عهد وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني، التي انصرف جهدها إلى المناكفات الإعلامية، فيما كانت تعرف أنّ من واجبها أن تلبّي هذه المتطلّبات منذ سنوات.
لا خروج من هذا الفشل بالعودة إلى “القرض نفسه بالشروط نفسها”… ذاك وهم!
هناك فشل لا يحتاج إلى لجنة تحقيق، بل إنّ التحقيق ناجز ومختوم بتوقيع دولي؛ هناك وزارة لم تقم بما عليها، لم تقدّم خطة التعويض الأيكولوجي، ولم تجر المشاورات مع أصحاب المصلحة، ولم تقدّم ترتيبات التشغيل والصيانة. انتهى الأمر. ثم يأتي باسيل ليرمي كلّ هذا الفشل على بضعة ناشطين يقفون في العراء. يجب على اللبناني أن يصدّق أنّ السلطة التي تفقأ أعين المتظاهرين في وسط بيروت وتحوّله إلى ثكنة كبرى، لا تستطيع أن تؤمّن دخول المقاول إلى الموقع!
على أنّ المشكلة ليست فقط في فشل الإدارة العونية للملف. لا بدّ اليوم أن يكون لدى المحتفلين بسقوط السدّ ما يشرحون به أسباب الابتهاج بالانفجار الآتي لأزمة المياه.
الأزمة أكبر بكثير من 1.6 مليون نسمة في جنوب بيروت يحتاجون إلى مياه نظيفة. هناك خمسة ملايين لبناني يحتاجون إلى المياه للشرب والمعيشة والزراعة والصناعة وريّ المساحات الخضراء والحدائق العامة. لا يحتاج الأمر إلى إعادة اختراع العجلة. هناك دول في محيط لبنان القريب هي من بين أفقر عشر دول بموارد المياه المتجدّدة في العالم، وتجد المساحات الخضراء على امتداد مئات الكيلومترات فيها تحت حرارة شمس تتجاوز الخمسين درجة مئوية.
الفشل في سدود المسيلحة وبريصا كان سيتكرّر لولا شروط البنك الدولي
مشكلة سدّ بسري الكبرى أنه كان أحاديّ النظرة من الوجهة التنموية؛ كان الهدف منه نقل 105 ملايين متر مكعب من المناطق المفتقرة إلى المياه، للشرب والزراعة، في البقاع والجنوب، إلى حزام النزوح المحيط بالعاصمة. تلك وصفة قاتلة لمفهوم الإنماء العادل، ولأيّ مستقبل لتثبيت السكان في قراهم، وتوفير الموارد الاقتصادية لمعاشهم فيها.
لا خروج من هذا الفشل بالعودة إلى “القرض نفسه بالشروط نفسها”، ذاك وهم. لا خروج إلا باعتماد استراتيجية مبسّطة وواضحة لاستغلال موارد المياه المتجدّدة، يكون من أسسها:
– العدالة في توزيع موارد المياه بين المناطق وبين القطاعات، بذهنية الإنماء المتوازن، بحيث لا تجرّ مياه منطقة تحتاج المياه للزراعة والشرب، إلى منطقة أخرى.
– إخراج السياسة من اعتبارات توزيع الإنفاق. فلا يجوز إنفاق أكثر من مئة مليون دولار مثلاً، على إنشاء سدّين في البترون، ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وترك طرابلس وعكار وبعلبك والجنوب عطشى.
– تأسيس الاستراتيجية على أساس رؤية بعيدة المدى حتى العام 2050، وربطها بالاستراتيجية الاقتصادية التي أعدتها ماكينزي، لأن من غير الممكن تحديد أهداف لقطاع المياه منفصمة عن الأهداف الاقتصادية القطاعية والديمغرافية.
باسيل يرمي الفشل على بضعة ناشطين يقفون في العراء فيما السلطة تفقأ عيون المتظاهرين في وسط بيروت
ما يحتاجه قطاع المياه هو التحرّر من الطريقة العونية في الإدارة العامة. فمشكلة باسيل في المياه كما في الكهرباء كما في النفط، أنه ما أدار ملفاً بذمّة تقنيّة صافية من النكد السياسي؛ في النفط رفع شعار “لبنان دولة نفطية”، وملأ الشوارع بلافتات “شكرا باسيل”، للارتزاق السياسي من ثروة هي في علم الله، وفي ملف الكهرباء ملأ الشاشات بإعلانات تخيّل للمرء حين يشاهدها أنّ أديسون خرج من بطون التيار العظيم. وفي المياه كذلك، جيّر الملف كله لمصالح سياسية وطائفية.
هل يمكن أن نفهم مثلاً لماذا زجّ باسيل باسمي بيروت وصيدا ضمن المناطق المستفيدة من السدّ، خلافا للحقيقة؟ وذلك في تغريدته أمس والتي قال فيها: “سيأتي يوم تطالب فيه الدولة اللبنانية ومعها كلّ اهالي بيروت وجزين وصيدا والشوف وبعبدا وعاليه بتمويل سدّ بسري”.
المطلوب من أية استراتيجية جديدة التوازن والعدالة في توزيع موارد المياه والإنفاق بين المناطق والقطاعات
فالمعروف من وثائق المشروع أنّ مياهه تقف عند حدود قضاء بعيدا والضاحية الجنوبية، ولا تدخل إلى بيروت. بل إنّ وزير الطاقة السابقة ندى بستاني طلبت من مجلس الإنماء والإعمار إدخال قرى جزين وشرق صيدا ضمن المناطق المستفيدة ولم تلحظ أية حصة لصيدا!
في كلّ تلك الملفات، انطلق عمل باسيل من السياسة ووسخها، فتبّت يداه في السياسة وتبّ. وها هو الآن يبكي من “نكد سياسي” كان هو من بدأه.