جاء الرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان للمرة الثانية لكي يتفقّد إنجاز فرنسا بعد مائة عام. وقد انزعج منه عديدون وبخاصةٍ رئيس العهد. أما شباب الثورة المباركة، والذين كانوا مذهولين من خراب ديارهم في 4 آب، إضافةً إلى الانهيار الاقتصادي والنقدي، فقد ابتهجوا بزيارة ماكرون لهم كما للمرفأ الخِرِب، ثم داخلتهم خيبة الأمل عندما وجدوا أنّ الرجل يحاول إنقاذ النخبة الحاكمة من نفسها وتجديد شرعيتها بالإصلاح الذي أبتْه حتى الآن! ووحده حزب الله في النهاية تظاهر بالارتياح بعض الشيء. إذ كان ماكرون أول مسؤولٍ دوليٍ كبير يقابل أحد نوابه بعدعقدٍ ونيف؛ وهذا في وقت صارت فيه ثمانون دولة – بينهم أوروبيون كبار أيضاً – يعتبرون الحزب تنظيماً إرهابياً!
إقرأ أيضاً: لقاء البطريرك والمفتي… الأخطار على لبنان: ارتهان الرئيس للشرعية وارتهان الميليشيا للوطن!
في المجيء الثاني لماكرون ازداد حزب السلاح اطمئناناً، فالفرنسي فرّق بين قسم السلاح وقسم السياسة لدى الحزب، مع أنّ كلّ السياسيين والمثقفين والإعلاميين اللبنانيين الذي اغتالهم الحزب، إنما اغتالهم بالسلاح الحربي ولأهداف سياسية بالطبع، فهل يُقرُّ الرئيس الفرنسي استخدام السلاح في السياسة الداخلية وبخاصة أنه عرف التطرّف والإرهاب في الشوارع الفرنسية؟! البحث في سلاح الحزب مؤجَّل إذن، والأوروبيون وقفوا إجماعياً ضد الولايات المتحدة في محاولتها مَدَّ حظر بيع السلاح التقليدي لإيران والذي ينتهي في أكتوبر/تشرين الأول بحجة عدم إغضابها لتبقى في الاتفاق النووي لحين عودة الفرصة للتفاوض معها بعد الانتخابات الأميركية في 3 نوفمبر/تشرين الثاني. ولو لم يستفد الحزب غير فرصة الشهرين حتى الانتخابات لكان ممتناًّ، لأنّ القرار بشأن السلاح ليس بيده بل بيد إيران، وإيران ليست مستعدةً لتجزئة الملفات بحيث يضيع هذا السهم أو ذاك من كنانتها قبل الصفقة الشاملة التي قد تُصبحُ عندها ممكنة. ولذلك، سكت الحزب على مسألة المفاوضات حول ترسيم الحدود مع إسرائيل، وسكت على شروط بقاء القوات الدولية وتعديل مهماتها. بل وهو مستعدٌّ للقبول بالحكومة غير السياسية والمصغَّرة حتى الآن، بخاصةٍ بعد أن شهد له ماركون بأنه غير داخل في الفساد أيضاً، باستثناء “أمور بسيطة” وهي: السيطرة على كلّ الحدود البحرية والجوية والبرية للبلاد! وتبرّع رئيس العهد لحزب السلاح بالتصريح أنه لاعلاقة له بما جرى للمرفأ، وهو لا يخالف القوانين اللبنانية!
هناك بئران عميقان لانهيار لبنان وغرقه: استيلاء السلاح الميليشياوي، واستيلاء الفساد الاكتساحي!
ما يريده ماكرون في ذكرى المئوية الأولى لقيام الكيان على أيدي الفرنسيين، إقناع الأرباب الحاليين للنظام بوقف الفساد والهدر، لكي يستطيع إقناع المجتمع الدولي (والأميركان تحديداً) بالموافقة على إقراض البلاد المفلسة خلال إصلاح إدارتها الفاشلة والفاسدة. فلنستعرضْ ردّات الفعل.
لقد تسابق العهد وصحبه (وهم رأس الداء) إلى الأطروحات الراديكالية بشأن تغيير النظام، والاشتراع للدولة المدنية! وقد افتتح ذلك المفتي الجعفري أحمد قبلان بالحملة على الطائف، بل على دستور الاستقلال، وهاجم الطائفية بشدة، وانتصر للدولة المدنية! وهو الأمر الذي لم يوافقه فيه الرئيس بري، بينما دخل في مطلب العقد الجديد الزعيم المعصوم أيضاً. ثم كسر الجرّة نهائياً مع النظام اللبناني رأس النظام نفسه. الذي اعتبر أنّ تاريخ لبنان مملوء بالأزمات والحروب، وهو يريد الإصلاح، والنظام لا يسمح، وشباب اليوم يريدون التغيير، فليكن ما يريدون عبر تغيير الدستور أو تعديله وإقامة الدولة المدنية!
لستُ متأكداً من معرفة الرئيس والمفتي الجعفري والزعيم المعصوم بالدولة المدنية ومقتضياتها! فلستُ أدري ولا المنجِّم يدري كيف تقوم دولة مدنية، بل أيّ دولة، والسائد عليها تنظيم مسلَّحٌ يتزعّمه شيخ أو ملاّ، وكيف في هذه الحالة يمكن فصل الدين عن الدولة أو التمايُز بينهما على الأقلّ! الدولة المدنية عند الزعيم وأنصاره ومفتيه، تعني شرعنة الاستقواء بالسلاح على اللبنانيين، وممارسة الاغتيالات السياسية، والاستيلاء بالسلاح أيضاً على الحدود وعلى المناطق الداخلية المختارة. والدولة المدنية عند العهد، هي الاستيلاء فساداً وإفساداًعلى بقية المؤسسات التي يسمح الزعيم المعصوم لهم بها غنيمةً باردةً ومستحقة!
ولذلك، هناك بئران عميقان لانهيار لبنان وغرقه: استيلاء السلاح الميليشياوي، واستيلاء الفساد الاكتساحي!
لندع أنصار الدولة المدنية الشيعية والعونية، وكيف سيتصرّف الرئيس الفرنسي إزاء هذا الإنجاز الذي يهدّده به ويهدّد اللبنانيين العهدُ وحزبُ السلاح – ولننصرف قليلاً إلى التاريخ الفعلي للمئوية الأولى
من أين أراد الرئيس الفرنسي البدء؟ أمهل الحزب المعصوم، وهادنه، وانصرف لمكافحة الفساد الاكتساحي، وفي حسبانه أنّ ذلك كافٍ الآن لإخراج لبنان من وهدته.
وهكذا اندفع عون واندفع الحزب المعصوم للزعم أنّ الأزمة ليست أزمة فسادٍ هائل، وسلاحٍ مشهور على رؤوس اللبنانيين؛ بل هي أزمةٌ دستورية (!). وهذا يعني على سبيل المثال أنه إذا كان قانون انتخابات فظيع قد اشتُرع، أو 40 مليار دولار قد سُرقت وهُدرت في الكهرباء، ومصاريف عشوائية قد حصلت في الاتصالات، وتشكيلات قضائية لم تحصل؛ فذلك لأنّ الدستور المسكين يحول دون المكافحة والإصلاح وحكم القانون!
فلندع أنصار الدولة المدنية الشيعية والعونية، وكيف سيتصرّف الرئيس الفرنسي إزاء هذا الإنجاز الذي يهدّده به ويهدّد اللبنانيين العهدُ وحزبُ السلاح – ولننصرف قليلاً إلى التاريخ الفعلي للمئوية الأولى.
عندما أقام الفرنسيون “لبنان الكبير” عام 1920، واشترعوا له دستوراً عام 1926، كان يعاني من عدة أعطاب. فالمسلمون سنةً وشيعةً ودروزاً ما كان الكيان الجديد ذا شعبيةٍ عندهم، لأنهم كانوا يريدون البقاء مع سورية من جهة، ولأنّ “الأقضية الأربعة” التي جعلت لبنان كبيراً أُلحقت به وكانت أكثر ارتباطاً في الحقبة العثمانية بسورية وبقية ولايات المحيط. لكنّ المدن كانت مشاركتها تتزايد، ويقوم عيشٌ مشتركٌ أفضى في مطلع الأربعينات من القرن الماضي إلى قيام حركة استقلالية إسلامية – مسيحية، جمعت إلى مقاومة الانتداب، التخلّي عن الانضمام إلى سورية، بعد أن تخلّى الاستقلاليون السوريون عن فكرة الاتحاد! ومنذ أواسط الأربعينات وحتى اليوم، تجذّرت فكرة الدولة المستقلة، ودخلت بالجامعة العربية، وبالأُمم المتجدة. وصار معروفاً أنّ الانحياز إلى هذا الخارج أو ذاك يُحدث اضطراباتٍ بالداخل. قام بذلك الرئيس كميل شمعون عندما مال لحلف بغداد وأمَّل التجديد لنفسه، فنشبت ضده ثورة صغيرة – وأسرف المسلمون في الانحياز لمنظمة التحرير الفلسطينية فنشبت حربٌ أهلية. وعندما تدخلت سورية في لبنان عام 1976 ما كان ذلك لأنّ أحداً من اللبنانيين أراد التوحّد معها، بل لأنّ العرب والدوليين أرادوا حفظ لبنان بحيث لا يتمزّق تحت وطأة التجاذب المزدوج بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير من جهة، وبين المسيحيين والمسلمين من جهةٍ ثانيةٍ. ورغم بقاء الجيش السوري في لبنان حتى العام 2005؛ فإنّ الذي حصل عام 1989- 1990 بالطائف بالمملكة العربية السعودية من كتابة وثيقة الوفاق الوطني والدستور من جانب البرلمانيين اللبنانيين، كان حاسماً لجهة فهم اللبنانيين لأنفسهم وأسباب وحدتهم واستقرارهم: قال المسلمون إنّ لبنان وطن نهائي، وقال المسيحيون بعروبة لبنان،. أما التنظيم الدقيق لمقتضيات المواطنة والمساواة وتوزيع السلطات وحكم القانون والمناصب؛ كلّ ذلك هو نتاج تطوّرات دستورية وقانونية كانت بذورها حاضرةً ومتناميةً منذ الدستور الأول والميثاق الوطني.
لبنان الحاضر والمستقبل – رغم الأزمة الطاحنة الحالية – هو لبنان الجامعة والمدرسة الراقية، والمستشفى المتقدّم، والمصرف الحائز على الثقة، واللبناني العامل نهاراً وليلاً على التقدّم والنجاح في البلاد والعالم
والواقع أنّ قَصَصَ الأحداث، والتطوّرات السياسية، والأزمات؛ كلُّ ذلك يعطي فكرةً سيئةً أو مجتزأةً عن الحقيقة المتنامية للعيش المشترك، وحضارة لبنان، وموقعه العربي والعالمي. فقد صنع اللبنانيون صورةً عن أنفسهم وعن بلادهم مثقفين وأدباء وعلماء وتجاراً ورحّالةً ومهاجرين، أكبر بكثير وأكثر إيجابية من الصورة أو الصُوَر التي صنعها السياسيون الطائفيون، والمسارعون للاستنصار بالخارج على خصومهم ومنافسيهم الداخليين.
لبنان الحاضر والمستقبل – رغم الأزمة الطاحنة الحالية – هو لبنان الجامعة والمدرسة الراقية، والمستشفى المتقدّم، والمصرف الحائز على الثقة، واللبناني العامل نهاراً وليلاً على التقدّم والنجاح في البلاد والعالم. ويبلغ من ثبات هذه الصورة وعمقها أنّ العرب والعالم ما يزالون على إيمانهم بهذا اللبنان الخالد رغم انتهاكات الفساد والإفساد، وارتكابات حزب السلاح على لبنان وعلى العالم.
البطريرك الماروني الذي يتذكّر دائماً أسلافه من عريضة إلى الحويك والمعوشي وصفير، يعرف ما يقول عندما يدعو إلى الحياد والتحييد من المحاور والنزاعات. ويعرف ماذا يقول عندما يروّعه زالزال المرفأ، وأهوال الفساد. لبنان في مئويته الأولى المعبِّرة، يظلّ إلى جانب مصر أقدم الدول العربية التي ما تزال قائمة، رغم أهوال الجيران، ورغم الاستيلاء الإيراني الحالي. فإذا ذكر الفرنسيون لأنفُسهم إقامة الكيان قبل مائة عام؛ فإنّ الخمسة ملايين لبناني مقيم، وملايين المهاجرين الأوفياء، هؤلاء جميعاً يستحقون مائة عامٍ أُخرى وأكثر.
الرئيس الفرنسي الذي زار السيدة فيروز، زار أيضاً غابة الأرز في بلدة جاج بمنطقة جبيل، ولا بد أنّ أحداً ذكّره بقول الشاعراللبناني:
يا بني أمي إن حضرت ساعتي والطب أسلمني
فاحفروا في الأرز مقبرتي، وخذوا من ثلجه كفني