مع كلّ طلعة شمس، تتكشّف تفاصيل جديدة عن سفينة “روسوس” التي حملت شحنة نيترات الأمونيوم إلى بيروت. آخر المعلومات كان ما نقلته صحيفة “دير شبيغل” الألمانية في تقرير أعدّته حول مالك السفينة الأصلي وعلاقته بمصرف في تنزانيا، فرضت الخزانة الأميركية عقوبات عليه عام 2016، وأُقفل لدعمه “حزب الله” وجهات تخصّ النظام السوري. لكنّ ما لم يذكره التقرير هو أنّ مالكي هذا المصرف موجودون هنا في بيروت.
إقرأ أيضاً: ما الذي حدث في بيروت: مستودع ذخيرة فجّر نيترات الأمونيوم
فالمصرف هو FBME أو “البنك الفدرالي للشرق الأوسط”، الذي تأسس في قبرص عام 2003 وله فروع في تانزانيا، يملكه الأخوان اللبنانيان أيوب صعب وفادي صعب، اللذين يملكان أيضاً، وبشكل منفصل، “فدرال بنك لبنان”، له تسعة فروع ومقرّه في منطقة الأشرفية حيث تضرّر جراء الانفجار أيضاً (فادي صعب توفي في 5 نيسان 2020 في قبرص ودُفن هناك).
تؤكد “دير شبيغل” التي أُعدّت التقرير بالتعاون مع “مشروع التغطية الصحفية لأخبار الجريمة المنظمة والفساد” ومقرّه سراييفو، أنّ مصرف FBME ليس كأيّ مصرف. بل هو “مشبوه”، وأنّ الخزانة الأميركية اتّهمته بتبييض الأموال لصالح “حزب الله”، فيما له زبون آخر مشتبه به، في أنّه شركة عبارة عن “واجهة” للنظام السوري ومتورّطة في برنامج الأسلحة الكيميائية.
بحسب وثائق الخزانة الأميركية، فإنّ أنشطة مصرف FBME كانت استلام ودائع بمئات الآلاف الدولارات من مموّل لـ”حزب الله” إضافة إلى التعامل مع شركة هي “واجهة” لمركز(SSRC) العائد للنظام السوري، وهو المركز نفسه المسؤول عن تجهيز الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجّرة لجيش النظام
وبحسب وثائق الخزانة الأميركية، فإنّ أنشطة مصرف FBME غير المشروعة كانت استلام ودائع بمئات الآلاف الدولارات من مموّل لـ”حزب الله” إضافة إلى التعامل مع شركة “واحدة على الأقل” هي “واجهة” لمركز الدراسات والبحوث العلمية (SSRC) العائد للنظام السوري، وهو المركز نفسه المسؤول عن تجهيز الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجّرة لجيش النظام.
وتضيف الوثائق أنّ هذه الشركة وعنوانها في تورتولا، إحدى جزر “فيرجن” البريطانية، قد تعاونت مع ما لا يقلّ عن 111 شركة وهمية أخرى. كما تكشف أنّ مستشاراً مالياً لشخصية رئيسية في مجال الجريمة المنظّمة العابرة للحدود، كان عميلاً كبيراً لمصرف FBME في قبرص، و”كان على علاقة مع مالكيه“، أي مع الأخوين صعب.
وفي تفاصيل رواية “دير شبيغل”، فإنّ الروسي إيغور غريشوشكين لا يملك السفينة “روسوس” مثلما قيل سابقاً، وإنما مالكها الأصلي هو رجل أعمال قبرصي يدعى شارالامبوس مانولي وله علاقات مع هذا المصرف، الذي كان يستخدمه “حزب الله” من أجل تبييض الأموال. كان مانولي يدين بالمال لهذا المصرف الشهير بحسب التقرير الروسي، بـ“الضغط على المقترضين المتعثرين لديه من أجل تأدية خدمات لزبائن مشتبه فيهم”، مثل “حزب الله” أو ربما النظام السوري.
مانولي يدين بالمال لهذا المصرف الشهير بحسب التقرير الروسي، بـ”الضغط على المقترضين المتعثرين لديه من أجل تأدية خدمات لزبائن مشتبه فيهم”، مثل “حزب الله” أو ربما النظام السوري
وبحسب التقرير الألماني، فإن مانولي كان يخفي ملكيته للسفينة، وقد وضع في الواجهة غريشوشكين الروسي، وحين استُجوب مانولي حول ملكية السفينة، قال إنّه باعها إلى الروسي غريشوشكين، لكنّه اعترف لاحقاً بأنّ الأخير عرض شراءها فقط، ثم بعد ذلك رفض مانولي تقديم أيّ معلومة إضافية. ويذكر التقرير أيضاً أنّ لمانولي علاقات عمل في لبنان، وأنّ سجلّات اطلع عليها معدّو هذا التقرير، أكدت أنّه أخذ قرضاً بقيمة 4 ملايين دولار سنة 2011 من بنك FBME في تنزانيا، لشراء سفينة أخرى غير “روسوس”، وبعد شهر واحد من حصوله على القرض، تعثّرت شركته “سي فورس مارين” المحدودة ومقرها أميركا الوسطى، عن سداد الدفعة الأولى. فقدّم مانولي السفينة “روسوس” كضمان للقرض، لكنّ البنك رفضها، وفضّل مصادرة ممتلكات عقارية يملكها في قبرص. وأظهرت الوثائق الداخلية للبنك أنّ مانولي كان لا يزال يدين له بـ962 ألف يورو في تشرين الأول 2014.
وفيما ينفي مانولي أيّ صلة بين الديون وبين توقّف السفينة في بيروت، لا يبدو أنّ أيّ جهة من التحقيق اللبناني قد توجّهت لآل صعب، أو من ينوب عنهم في بيروت، لسؤالهم عن سبب رفضهم الحصول على سفينة “روسوس” كضمانة، فهل كانوا يعلمون بشبهة السفينة واستخدامها في نقل الممنوعات؟ أو أنّ الرفض كان نتيجة حالتها المتهالكة أو لأسباب آخرى؟ هل فعلاً هم من ضغط على مانولي لنقل شحنة نترات الأمونيوم إلى بيروت لصالح “حزب الله” أو جهة أخرى من خلال ابتزازه لتعثّره في دفع القرض؟
مصادر مصرفية مطلّعة كشفت لـ”أساس” أنّ مصرف لبنان في تلك الفترة وقبل قرار إقفال المصرف في قبرص، كان يطالب آل صعب بزيادة رأس المال الخاص بمصرف “فدرال بنك لبنان”، لكنّهم لم يفعلوا، وذلك بحسب مصادر في “مصرف لبنان” قالت بـ”أساس” إنّهم أصرّوا، لأسباب تبدو مجهولة، على خوض غمار الدعاوى القضائية مع الخزانة الأميركية من أجل محاولة إنقاذ مصرفهم القبرصي. وقد أدّى هذا الاصرار إلى تردّي علاقة آل صعب مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بعد أن فضّلوا صرف الأموال على الدعاوى القضائية، فيما سلامة كان يفضّل زيادة رأس المال في المصرف اللبناني الذي يملكوه بدل إسرافها على أمر معروفة نتائجه سلفاً.
هل كانوا يعلمون بشبهة السفينة واستخدامها في نقل الممنوعات؟ أو أنّ الرفض كان نتيجة حالتها المتهالكة أو لأسباب آخرى؟
وفي شهر آب من العام 2014، توجّه نائب حاكم مصرف لبنان، في حينه، محمد بعاصيري إلى قبرص برفقة عضوي لجنة الرقابة على المصارف السابقين أحمد صفا وأمين عواد من أجل التأكيد على عزل أزمة FBME عن “بنك فدرال لبنان”، وتبيّن لهم أنّ الأمر محصورٌ بيد الخزانة الأميركية، لأسباب لم تفصح عنها الخزانة في حينه. لكن لاحقاً في العام 2016 صدر “قرار الإعدام” الأميركي بحقّ المصرف القبرصي، ثم لاحقاً طال فروعه في تنزانيا من دون أن يطال مالكَيه من آل صعب اللذَين تكشف سيرتهما الذاتية أنهما يتحدّثان اللغة الأرمنية (والدتهما أرمنية) إلى جانب الإنكليزية والفرنسية والعربية وخصوصاً الروسية (أيوب صعب يتحدث الإيرانية أيضاً). ولعلّ إتقانهما الروسية سمح لهما بنسج علاقات واسعة في أوروبا الشرقية.
فللمصرف مكتب في روسيا أيضاً، واتُهم من خلال تحقيقات أخرى أجراها “مشروع التغطية الصحافية لأخبار الجريمة المنظمة والفساد”، بتسهيل غسيل الأموال لملياردير كازاخستاني، وبمساعدته على إنشاء شركات وهمية لإخفاء مئات الملايين من الدولارات تعود إلى أثرياء روس قاموا بعمليات احتيال ضريبية ونقلوا أموالاً أودعوها عبر حسابات مصرفية في FBME، وعوقبوا بموجب “قانون ماغنيتسكي”، الذي يبدو أنّنا مهما غصنا أو ابتعدنا في التحليلات وفي السياسة… عاجلاً أم آجلاً سنعود إليه!