ربما زُلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقال مجرميها في مرفأٍ يبعدُ كيلومترًا عن مشفى، وعن جامعٍ، وكنيسة. لكن هذا لا يهمّ طالما أنّ المجرمين هم مجرمون تحت لواءِ الله.
الثلاثاء 4 آب، ظننّا لوهلةٍ أولى أنّ قارعةً ما تسفكُ ببلدنا، فماذا نحتاجُ أكثرَ بعدَ لنصدّقَ أن اليوم هو يوم القيامة؟
إقرأ أيضاً: الإحساس بالذنب يلاحق الناجين من تفجير المرفأ: لماذا لم نَمُت؟
كانَ كلّ شيءٍ ينذرُ بإشارات تكتونية لم نحسّها نحن أهل البقاع في بيروت منذ حروب العاصمة الدامية. لكنّ البعض ممن يمتهن فنّ المسرحيات، فوّض للمرفأ أن ينفجرَ بسبب “ماسّ كهربائي” أو تلحيم أو احتراق فرقيعة. البعض يظنّ أننا نحن المقيمين في بيروت ذبابًا أمام ناظريه، فيقتلُنا، ليقولَ بعد دقائق: لا دخلَ لي إنّها شرقطة في كابل الكهرباء.
كنتُ في طريقي نحو بيروت، آتياً من مشفى دير الصليب للأمراض العقلية، وسمعتُ صوتين متتاليين كأنّ الله نفخَ في الصّورِ. لم يكن الصوت عاديًا. لقد سمع ارتداده أهلي في البقاع على بعد 60 كلم من مكان الجريمة. وتوقفت كلّ نبضات القلب أمامي وورائي. وعلمنا لاحقاً أنّ أهالي قبرص سمعوه. فلا البحر أمامي، بل الدخان، ولا الجبل ورائي، بل صوت الانفجار الذي دوّى في حواسّ بيروت.
انفجار بيروت لم يكن “تشرنوبيل” ولا “هيروشيما” ولا “نكازاكي”، بل كان أهلع من كلّ التاريخ الذي قرأنا عنه. كان في الحقيقة، يُسجّلُ تاريخًا آخر من الإجرام، والعمالة، والحقارة، والنذالة
انفجار بيروت لم يكن “تشرنوبيل” ولا “هيروشيما” ولا “نكازاكي”، بل كان أهلع من كلّ التاريخ الذي قرأنا عنه. كان في الحقيقة، يُسجّلُ تاريخًا آخر من الإجرام، والعمالة، والحقارة، والنذالة. وكان يعلّق مشانق جماعية لزعماء الطوائف الحامين للطائفية، القاتلين للإنسانية فوق رفات الضحايا في مرفئهم المخزّن بالقنابل الموقوتة. انفجار بيروت دخل التاريخ من أبوابه العريضة، فكيف لعاصمة لا تتّسع لحيّ في اليابان أن يسفكُ بها ثالث أكبر تفجير في تاريخ البشر.
وصلتُ مستشفى رزق، وأنا أحذو طرقاتٍ يسيحُ فيها الدم يمينًا ويسارًا. كان الناس متوشّحين بدمائهم. لم يضيّعوا هاتفهم أو مفاتيحهم. بل أضاعوا أولادهم، إخوتهم، أمهاتم، أو آباءهم. كنتُ شهيدًا على إبادة حيّة أمام عيني، وأنا الطبيب الذي أقسمتُ بكلّ شيء أن أحفظ دماء المارّة من كلّ سوء. فكيف أنقذُ بحرًا من الدم، وأنا الغارقُ الأكبرُ الذي لا يستطيع حتّى أن ينزف؟ وماذا أملكُ الآن من حِيَلٍ ضئيلة لأضمّدَ جراحًا تنزفُ كبحر بيروت على ميناءٍ بغير سلام؟
نعم، قامت بيروت من فوق الردم، ومن تحته، وما بين يديها وما خلفها. وكنا نعرفُ نحن الأطبّاء أنّ عدد الجرحى في المشافي، سيقلبُ تاريخًا ما على ضمائر الحكّام الذين ينتعلون كوماً طويلة الأمد لا توقظها قنبلة ولا حتى مئة انفجار. 6500 جريح لبناني وعربي وأجنبي لم توقظ ضمائر النائمين، نعم إنّها جمهورية النوم.
ستبقى بيروت شاهدةً على فعلتهم النكراء. وسنعلّقُ مشانقهم نحن يومًا، فهم خبّأوا، وهم خطّطوا، وهم نفّذوا، وهم أخفوا كلّ شيء عنا. لكنّ الله يعلمُ بكل شيء
كنّا نطبّب الجرحى في مواقف السيارات الأربع تحت الأرض. فقسم الطوارئ وأسرّته وبلاطاته امتلأت، والأسرّة مضرّجة بالزجاج الذي سقطَ على المرضى، فبعضهم استشهد وبعضهم ما بدّل تبديلاً.
أكثر من 500 جريح جاءت بهم سيّارات الاسعاف، وسيارات الصليب الأحمر، وبين أيادي الأصحاب والأقرباء. وهناك من قدمَ ليسأل عمّا إذا كنّا لمحنا جثّة قريبه أو نسيبه. بينما كان الصرح الجامعي العظيم يعجّ برائحة الموتى الضحايا، هؤلاء الشهداء على ما فعلَ بهم حكّامهم عشية هذا الليل الكئيب.
غصّ الأطباء بجراحِ مرضاهم. وبعضهم ممّن كان جريحًا، فكنّا أطبّاءً نداوي العللَ ونحن عليلون، وما بأيدينا “شاش” ولا “قطن” ولا “قطب” ولا بنج. فالمشافي خالية حتى من أبسطِ معدّات ترقيع الموت، والموت يموتُ على أبوابها. استحضرنا من سياراتنا، ومن الصيدلياتِ القريبة بعض المعدّات التي بالطبع لم تكن كافية. فكأنّه مكتوبٌ علينا أن نواجه الموت والنقص وفيروس الكورونا القاتل الذي لم يعد يهمّ أمام الإبادة الجماعية هذه. حتى الكوفيد الذي قتل ما يقارب المليون مريضًا في العالم لم يعد صالحًا للوقوف أمام مخاوفِنا. كيف لا ونحنُ شعبٌ، القتلُ لنا عادة، وكرامتنا من الزعيم الإبادة.
ستبقى بيروت شاهدةً على فعلتهم النكراء. وسنعلّقُ مشانقهم نحن يومًا، فهم خبّأوا، وهم خطّطوا، وهم نفّذوا، وهم أخفوا كلّ شيء عنا. لكنّ الله يعلمُ بكل شيء. وإنّ صفحات الدم في التاريخ، ستجلدهم، ولن ترحم. فهم قتلوا في صفحات إنجازاتهم وطنًا من الصعب نحن الأطباء أن نشفيه إلا إذا سحبنا الروح منهم واحدًا واحدًا. فهم أعتى بكثير من السرطان، وعليه #علقوا_مشانقهم دعوة قليلة، حتّى منّا نحن الأطباء.