قبل إصدار كتابه الأخير عن فيروس كورونا، كان للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك موقف ساخر عبّر عنه غير مرة حول أداء منظّمات وحركات بيئية ترمي المسؤولية على الأفراد في مسائل تتعلّق بالبيئة، ولا تسائل الأنظمة أو الحكومات. فقد تتعرّض للتوبيخ من ناشط بيئي مثلاً لأنك رميت عقب سيجارة على الأرض، ولا تسمع ما يلائم تجاوزات الأنظمة في سلوكها البيئي العام. فكرة جيجك تتمحور حول التضخيم المبالغ فيه للدور الفردي في مصير البشرية، فيما يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى نوع من الأيديولوجيا التي تهدف إلى التشويش على مساءلة واجبة تشكّل مقدّمة لتغيير الأنظمة سياسياً وإجتماعياً. يستعيد جيجك هذه المقاربة في كتابه عن “الوباء: كوفيد 19 يهزّ العالم”، ليسقطها على سلوك الحكومات والمنظومات الطبية في وضع اللوم على الأفراد، مسجّلاً قلقه من محاولات الأنظمة استغلال كورونا، وفرض أشكال جديدة من السلطة. من هنا، تبدو حاضرة إشكالية الربط بين الوباء وبين القمع. وقد سجّلت مخاوف تشبه تلك التي لجيجك لدى كثير من المفكّرين والصحافيين في جميع بلدان العالم. الصحافية المقيمة في هونغ كونغ، فيرنا يو، قالت تعليقاً على قمع السلطات الصينية للطبيب لي وينليانغ الذي اكتشف الفيروس، وعملت على التعتيم على أبحاثه: “لو كانت الصين تعلي من شأن حرية التعبير، لما وقعت أزمة فيروس كورونا”. بمعنى آخر، كان يمكن لحرية التعبير الفردية، التي حُرم منها وينليانغ، أن تنقذ العالم من هذا الوباء.
إقرأ أيضاً: بيروت في قبضة “قانون الطوارىء”!
نعوم تشومسكي ليس بعيداً عن هذه المخاوف. فهو قد صرّح في حوار أجري معه في عزلته المنزلية في بدايات انتشار الفيروس في أميركا، أنّ الإجراءات الاستثنائية التي تطبّقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، قد تتسبّب بتدهور الديمقراطية، والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم. وما لفت تشومسكي أيضاً، وأخافه، هو الحديث عن الأطباء بوصفهم “جنود الجبهة الأمامية بمواجهة العدوّ غير المرئي”. وهذا خطاب سمعنا مثله تماماً في لبنان على ألسنة المسؤولين اللبنانيين، وعلى لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، الذي شبّه المواجهة مع الفيروس بالجهاد ضد الأعداء، واعتبر الطاقم الطبي جنوداً على الجبهات الأمامية، وأنّ كلّ من يسقط منهم في الحرب مع “كورونا”، هو شهيد.
ربط الوباء بأدبيات الحرب هو المقدّمة الأساسية لعسكرة الأنظمة الصحية والإدارية في مواجهته. ولم تتوانَ السلطة اللبنانية، ومعها منظومتها الإعلامية، عن استخدام هذا الوباء لتوبيخ المواطنين على عدم التزامهم المعايير الصارمة لمكافحة الوباء، وأهمّها بالنسبة إلى السلطة عدم التجمّع ومنع التظاهر. ولمّا بدا أنّ “حقنة” الوباء غير قادرة على تخدير الناس، وشلّ حركتهم المشاكسة ضد السلطة، أتى انفجار المرفأ، ليعطي السلطة حجّة إضافية لقوننة حالة الطوارئ الصادرة عن الحكومة بقانون صادر عن مجلس النواب يعطي صلاحيات استثنائية للجيش ليقوم بما يلزم لمنع التجمّعات وقمع الأصوات المزعجة، وتأديب المتظاهرين الذين يتجرأون على الرموز الكبيرة للسلطة، إلى حدّ تعليق مشانق المسؤولين قاطبة في ساحة الشهداء. ولا تنفصل (ولن) حالة الطوارئ العسكرية المرتبطة بالانفجار عن تلك المعلنة من الحكومة قبل الانفجار والمتعلّقة بكورونا، بل إنّهما تتكاملان لتعزيز حالة القمع العامة التي يراد منها كتم الأنفاس التي تخرج مشبّعة بالغضب من الصدور.
ليس من الحماقة القول إنّ إفناء البشر يبدأ بالقضاء على الجراثيم. عندما يصبح كلّ شيء نظيفاً ونقياً، وحينما نتمكّن من وضع حدٍّ لكلّ عدوى اجتماعية وجرثومية، لن يبقى عندئذ سوى فيروس الحزن في عالم النظافة والتكلّف القاتلين
ولا يستبعد المرء أن يسمع على غرار الأنظمة القمعية، خرافات تبثّها السلطة عن الربط مثلاً بين الكورونا والشتائم، وأنّ الشتّامين عرضة أكثر من غيرهم للإصابة بالفيروس الفتّاك، تماماً كما خرجت أصوات تربط بين تشييع شهداء تفجير المرفأ وبين الأعداد المتزايدة للمصابين بكورونا. تريد السلطة ومعها منظومتها من إعلاميين وأنصار أن تقلب الناس صفحة التفجير بصمت. أن يدفنوا موتاهم بلا ضجيج، ولا صراخ، ولا غضب، ولا شتائم. يريدون أن يعقّموا اللغة، ويتعاملوا مع كلّ صوت معارض على أنه جرثومة، ويريدون تعقيم الفضاء العام من كلّ خطر “جرثومي” معارض يمكن أن يتحوّل إلى “وباء”. وبعد القضاء على كلّ الأصوات المعارضة، وعلى كلّ اختلاف وكلّ محاسبة، تعود السلطة إلى ممارسة الحكم بأمان و”على نظافة”، ويعود الناس المقهورون إلى حزنهم اليومي الذي يربض كحجر ثقيل فوق صدورهم.
ذلك يعيدنا إلى كلام معبّر وصائب قاله الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (توفي في العام 2007) قبل سنوات طويلة من ظهور الكورونا: “ليس من الحماقة القول إنّ إفناء البشر يبدأ بالقضاء على الجراثيم. عندما يصبح كلّ شيء نظيفاً ونقياً، وحينما نتمكّن من وضع حدٍّ لكلّ عدوى اجتماعية وجرثومية، لن يبقى عندئذ سوى فيروس الحزن في عالم النظافة والتكلّف القاتلين”.