خمسة عشر عاماً، أو بمعنى آخر عُمْرٌ انقضى، في انتظار، ونسيان، ثم انتظار، ثم نسيان، ثم انتظار حكم المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والاغتيالات المتسلسلة ذات الصلة التي امتدت بين 2005 و2013، وانتزعت من بين من انتزعتهم منا، خالي جورج حاوي، وأستاذي في الجامعة ثم زميلي في التدريس فيها وصديقي، سمير قصير. خمسة عشر عاماً لم تكن كفيلة بتحويل هذه الاغتيالات فعلياً إلى ماض يمضي، لأنها تداخلت مع جولات الدم التي عايشناها بعدها، على مستوى البلد، أو الإقليم.
إقرأ أيضاً: من هو سليم عياش؟
خمسة عشر عاماً من اليقين ومن الشكّ. اليقين المتعلّق بالوجهة الإجمالية لهذه الجرائم، وسياقها السياسي المحتدم، والاتضاح المبكر لهوية الذين يقفون حجر عثرة دون ظهور الحقيقة. في نهاية الامر، المعادلة الاساسية أنه، وعلى خلفية الانقسام حول خيارات البلد بعد الجلاء السوري، ثمّة من لجأ إلى الاغتيال المتسلسل، أو أقلّه أنّ الاغتيال المتسلسل لعب دوراً أساسياً في “تشذيب” موازين القوى، او في تجذير انعدام التوازن القائم، أكثر فأكثر.
خمسة عشر عاماً لمع فيها، منذ البداية، يقين تحاصره طبقات من الشكّ.
انتظرنا طويلاً هذا اليوم، يوم إصدار قرار المحكمة. رسمنا له سابقا صوراّ أشبه بالعاصفة والإعصار والزلزال. لكنّ القرار ما كان بإمكانه أن يكون كذلك لألف سبب
اليقين من أنّ هناك حقيقة ما نعلمها يقيناً، وإن تكن إرهاصية، ومبهمة، ولا تملك البرهان على نفسها تماماً، ولا الكلمات المنبثقة عنها بشكل فوري. حقيقة نعلمها منذ لحظة الإجرام نفسها، طالما أنّ الاستنفار ضدّ التحقيق كان نافراً في عدم رغبته تسهيل مهمة تعقّب تفاصيل الجريمة.
والشك في المقابل من أنّ هذه الحقيقة هلامية، هيولية، مشتّتة، غير مسوّرة، سهلة الاختراق، وأنّه لن نصل إلى نتيجة على مستوى إخراج ما في الصدور إلى حيث الدليل المفصّل المبين.
فإذا كان التحقيق المحلي لن يوصل إلى نتيجة، وفي تاريخ البلد مجموعة اغتيالات سابقة تشهد على ذلك، فإنّ التحقيق الدولي ثم المحكمة الدولية يمكنهما أن يخضعا لمواقيت التدويل وحساباته، أو أن ينحرفا عن مسارها لأكثر من سبب، أو ألّا يتوصلا بكلّ بساطة لأدلة وسباق تعليلي متين ومتكامل للحكم.
انتظرنا طويلاً هذا اليوم، يوم إصدار قرار المحكمة. رسمنا له سابقا صوراّ أشبه بالعاصفة والإعصار والزلزال. لكنّ القرار ما كان بإمكانه أن يكون كذلك لألف سبب. والأهم، أنّ العاصفة التدميرية هي التي لم نستفق منها منذ 4 آب ولن نستفيق قريباً، أمامها. أنّى لنا أن نستشعر مفاعيل الزلزلة في قرار محكمة دولية تحكم بصدد اغتيال أُلحق بسلسلة اغتيالات مزيدة عليه بين 2005 و2013.
الناس حولنا تقابل الجلسة التي تابعتها على مدى ساعات بأنواع من الشكوى. إما بالشكوى من أنّ المحكمة لم تذهب إلى إدانة القيادات السياسية، وإما بالشكوى من المحكمة نفسها. كلٌّ من موقعه بطبيعة الحال. شيئان واضحان في كلّ هذه المعمعة بالنسبة لي: ليس سليماً الافتراض أنّ هذه المحكمة، في هذه اللحظة، هي معدومة الأثر، وان لم يكن اثرها زلزالاً قائماً بذاته، بل عنصر يتضافر مع سواه من عناصر، في لحظة متنامية التدويل لبنانياً، وبما من شأنه رفع درجة الضغط أكثر فأكثر على ارتباط لبنان بمحور الممانعة. الناس المناوئة لمعسكر الممانعة ربما كانت تنتظر يوماً عاصفاً فاصلاً يعلن فيه سوق كلّ قادة المعسكر إلى المحاكمة على رؤوس الأشهادَ. والناس المناوئة للمحكمة، كانت تنتظر هي الأخرى نموذجاً تقدّمه على أنه المؤامرة الصهيو – أميركية في وضوحها الكلّي. لم يحصل لا هذا ولا ذاك. إلا أنّ الامور لم تكن نسبية. حصرت الإدانة بمجموعة ضئيلة، لكنّ هذه المجموعة ليست أبدا مقطوعة من شجرة، وليس هناك أوهام في هذا الصدد. كلّ ما هناك أنّه ليس للمحكمة الدولية من باب تقني لربط هذا الفرع بباقي الشجرة.
خمسة عشر عاماً. الانقسام حول حزب الله زاد أضعافاً مضاعفة مما كانت عليه الحال يومها. أما قيادات 14 اذار، فزادت ضعفا أمامه
لقد تأخر قرار المحكمة لأعوام طويلة ومريرة، لكنّه الآن يصدر في لحظة تجتمع فيها كلّ المفارقات. لحظة الانهيار المالي، الانتفاض الشعبي، الاستقالة الحكومية، الطعن في مشروعية البرلمان الحالي، الحركة التدويلية باتجاه لبنان، تأزّم الأوضاع الإقليمية اكثر فاكثر، وكلّ هذا تخترقه وتصقله وتدفعه إلى خواتيمه كارثة انفجار المرفأ الذي أتى على أحياء بكاملها من بيروت.
خمسة عشر عاماً. الانقسام حول حزب الله زاد أضعافاً مضاعفة مما كانت عليه الحال يومها. أما قيادات 14 اذار، فزادت ضعفا أمامه. وهناك اليوم أناس مشكلتهم كبيرة مع تركة 14 كلها، لكن لديهم مشكلة فعلية مع الحزب. كلّ هذا ينبغي أخذه بالحسبان. في الوقت نفسه، ليس بالحقد ولا بالثأرية يمكن مقاربة الأمور. إنّما لا يمكن مقاربة أيّ أمر إلا بإدماج سؤالين: هل بإمكاننا العيش في بلد خالٍ من الاغتيالات المتسلسلة؟ هل بإمكاننا العيش في بلد خالٍ من قنابل الدمار الشامل الموقوتة؟
أن يوهم المرء نفسه بأنّ الاغتيالات لا تعنيه، لأنّها تطاول “سياسيين”، في حين أنّ النكبة الشاملة وحدها تعنيه، فهذه مشكلة كبيرة. في الحالتين هناك مشكلة أمان الإنسان المواطن في هذا البلد، من الكيد والبطش ومن تبجيل العنف.
جاءت العدالة بالأمس شاحبة، vintage بعض الشيء، بدت لنا مهووسة بالجانب التقني من الأمور، بعيدة عن مخيلة المحاكم الملحمية. في الوقت نفسه، كرّست المحكمة النواة التأريخية الأساسية لسرد ما حصل بين عام 2005 و2013 من جرائم.