أن تدخل إلى الحياة السياسية اللبنانية، والبيروتية تحديداً، من بوابة “الدراجات النارية” والعراضات والاستقطاب الشعبي، عن قصد أو غير قصد، يعني أنّك إما غير جدّي في امتهان “كار السياسة”، أو أنّك على عجلة من أمرِك… وقد يصل بك هذا الأمر إلى ما وصل إليه بهاء الحريري وجماعته “الطارئين” على أهل الطريق الجديدة، بحسب تغريدة أخيه سعد الحريري.
إقرأ أيضاً: دم الأخوة يهدّد الطريق الجديدة
في الشكل وبحسب رواية المتقاتلين، فإنّ الإشكال الذي وقع ليل أمس الثلاثاء “فردي”. هذا في ظاهره، إلاّ أنّ التعمّق بتفاصيله وخلفياته، يؤكد أنّه بدأ منذ زمن طويل. بدأ من حال الفقر الذي ضرب هذه المنطقة وحوّل أبناءها إلى “مناصرين غبّ الطلب” يمتهنون التشجيع والاستقطاب والاستزلام. كار مستحدث يقتاتون من خلاله، نتيجة شحّ فرص العمل، والعوز، وانتشار الفوضى، وغياب الدولة، وضياع المرجعية.
الجرح آخذ في التوسّع داخل الطريق الجديدة، خصوصاً وأنّ الجهتين السياسيتين الراعيتين لـ”أهل المشكل” أي سعد وبهاء الحريري، لم يرسلا حتى اللحظة أيّ إشارة إلى ضرورة التهدئة وإجبار أهل المنطقة الواحدة على وأد الفتنة وضبط النفوس
فزعيم هؤلاء هو “من يدفع أكثر”، ومن كان اليوم زعيمهم وحبيبهم قد يتظاهرون ويتجمهرون ضدّه ويشتمونه في الغد… والعكس صحيح.
الجرح آخذ في التوسّع داخل الطريق الجديدة، خصوصاً وأنّ الجهتين السياسيتين الراعيتين لـ”أهل المشكل” أي سعد وبهاء الحريري، لم يرسلا حتى اللحظة أيّ إشارة إلى ضرورة التهدئة وإجبار أهل المنطقة الواحدة على وأد الفتنة وضبط النفوس. بل على العكس، فقد أصدرت منتديات بهاء الحريري على صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي بياناً نعت خلاله “الفقيد الغالي بمزيد من الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره”. وهذا يوحي صراحةً بأنّه تبنٍ سياسيّ للمغدور. أما الرئيس سعد الحريري، فغرّد على “تويتر” مؤكداً أنّ أهل الطريق الجديدة “لن يسمحوا للطارئين بإخراجها من كنف الشرعية والقانون”.
لقد اختار ابن رفيق الحريري البكر الدخول إلى عالم السياسة بواسطة هؤلاء، مؤكداً من خلال من كلّفهم بهذه المهمة أنّ “بيروت قادرة على استيعاب الجميع” وأنّ “هناك دائماً مكاناً للرأي الآخر”، في بيانٍ أصدره بعد المعركة المسلّحة. يتناسى بهاء ومن معه أنّ لغة الشارع لا تعرف آراءً، ولا حواراً ولا تقبّلاً لأيّ فكرة مقابلة. بل إنّ الشارع ليس مدخلاً للسياسة الحكيمة، وإنما منزلقاً للأعمال الميليشياوية التي يقول إنه يريد مواجهتها، فيما يبدو أنّ أخاه أيضاً يعدّ العدّة لمواجهات. والمؤسف في كلّ ذلك يحصل بـ”وقود” من شباب المنطقة، لا علاقة لبيروت وأبناء الطريق الجديدة به.
الطريق الجديدة وأهلها الأحباء لن يسمحوا للطارئين باخراجها من كنف الشرعية والقانون. ترويع المواطنين الآمنين واستخدام الاسلحة الحربية في اشكالات فردية لن يقبل بهما احد ونحن سنبقى الى جانب اهلنا في الطريق الجديدة وكل بيروت ابناء مدرسة رفيق الحريري المتمسكة بالدولة والشرعية والقانون.
— Saad Hariri (@saadhariri) September 8, 2020
المعلومات المستقاة من الطريق الجديدة تؤكد أنّ خلفية المشكلة قبل وقوع الجريمة، بدأت قبل أيام بتلاسن بين شباب من منطقة “أبو سهل” كانوا يتسامرون تحت منزل المدعو موسى كرنبي، فأقلقوا راحته. الانزعاج تخلّله عتب فتلاسن، ثم تطوّر إلى تشابك بالأيدي ورفع أسلحة حربية فطعنة سكين في كتف أحد الشبان من آل ششنية، انتهت به في مستشفى المقاصد. لكن مساء الاثنين ومن باب ثأر الأقرباء للمغدور، أقدمت مجموعة من شباب “أبو سهل” على تطويق طه الكرنبي (ابن أخ موسى الذي بدأ الشجار) وأطلقت الرصاص عليه من مسافة قريبة بواسطة سلاح حربي (على الأرجح كلاشنيكوف)، فاخترقت رصاصة واحدة خاصرته اليسرى وقطّعت شرايين القلب قبل أن تخرج من ظهره، بحسب شهادة الطبيب الشرعي الذي تمكّن “أساس” من التواصل معه.
تقول سامية (إسم وهمي) التي تسكن في الشارع الذي وقعت فيه الجريمة يوم السبت: “الحمدلله لم أكن في المنزل لحظة وقوع المشكلة، لكن للصراحة ما حصل معيب جداً ونحن كجيران للطرفين نقع في الحيرة ولا نعلم الحق يقع على من وإلى أي طرف نحشد؟ لكن ما أعرفه أنا شخصياً، أن علاء شيشنية شاب قبضاي ويحب أهل منطقته ويساعدتهم. سمعت أنّ في حقه مذكرات توقيف لكن يقال عنه قبضاي وهو أفضل من ابن كرنبي الذي لا نعلم انتماءه السياسة. بدأ تيار المستقبل واليوم مع بهاء الحريري. أنا أسمع هذا الكلام من شبان الحي… لا أعلم التفاصيل”.
أما أبو علي (إسم وهمي هو الآخر) الذي يملك محلاً مقابلاً للمدينة الرياضية ويسكن في محيط الجامعة العربية، فيقول: “هذه كلها تكبيرات راس، وهناك من يصرّ على تسييس الموضوع. ابن كرنبي رأسه كبير ومعلوماتي أن علاء شيشنية كان يريد أن يحل المشكلة قبل أن يتعرّض للطعن. هناك مخاوف من معاودة تجدد المشكل، واليوم سير الجيش اللبناني أكثر من دورية في المنطقة وأقام حاجزاً وقطع الطريق المؤدي إلى منطقة أبو سهل والشارع المؤدي إلى مكان تجمّع آل كرمبي، بعد تردد معلومات عن احتمال توجه دراجات نارية إلى محيط منطقة كاراج درويش من أجل إطلاق النار عن أحد المشاركين في مشكلة يوم السبت… الله يستر”.
إذا علمنا أنّ المجموعة المتورّطة في عملية القتل هي الجهة التي “اقتلعت” شاكر البرجاوي وجماعته من الطريق الجديدة قبل سنوات وفي ظروف أمنية مشابهة، تصبح المعلومات التي تتحدّث عن هذه النيات لدى أهل المنطقة، أكثر جدّية
يقول محمود (اسم وهمي) ابن المنطقة وشارك في الكثير من معاركها العسكرية إبان الحرب الأهلية وحرب المخيمات، وهو جار عشيرة آل كرنبي قرب المدينة الرياضية “يبدو أنّ الأمور لن تهدأ قريباً لأن الدم فاير جداً. أمس بعد دفن الفقيد، أحرق الشبان الغاضبون الكافتيريا الخاصة بعلاء (ابن شيشنية الذي يرقد في المستشفى بسبب طعنة السكين) في منطقة أرض جلول بعد عودتهم من المقبرة. طه كرمبي دُفن في مقبرة الشهداء الخاصة بالفلسطينيين وهذا دليل على أن المشكلة لا تأخذ طابعاً لبنانياً – فلسطينياً أبداً، وإنما محلياً وتوسع وباتت لملمته صعبة”.
إذاً، عصر أمس، دفنت عشيرة آل كرنبي العرسالية فقيدها على وقع الرصاص، في حضرة أعداد كثيفة جداً من الجيش اللبناني، فهل انتهت المشكلة هنا؟
يبدو أنّ الجواب سلبي. لأنّ جرح الطريق الجديدة لن يندمل، والاقتتال بين “أبناء” المنطقة الواحدة آخذ في التوسع على الرغم من الإجراءات الأمنية الصارمة التي يتخذها الجيش اللبناني وفرع المعلومات منذ مساء أمس، ومنها نقل المصاب في الطعنة من آل شيشنية، من مستشفى المقاصد إلى مكان آخر، منعاً لأيّ عملية ثأر من عائلة كرنبي.
المعلومات تشير إلى أنّ “الكيل قد طفح” من آل كرنبي المنتمين بأغلبيتهم إلى بهاء الحريري، وثمة “نية مبيّتة لدى بعض الشبان بإخراجهم من المنطقة”، إذا أقدموا على “ردّ فعل دموي مقابل” بحسب مصادر أهلية محلية في المنطقة وفي محيط المدينة الرياضية ومخيّم الفلسطينيين، خصوصاً نتيجة صراع الأخوين الحريري الذي غذّى الكثير من الحقد بين أبناء هذه المنطقة من دون أن يعمل أحد منهما على “تنفيسه” منذ أن أطلّ بهاء على الساحة البيروتية.
وإذا علمنا أنّ المجموعة المتورّطة في عملية القتل هي الجهة التي “اقتلعت” شاكر البرجاوي وجماعته من الطريق الجديدة قبل سنوات وفي ظروف أمنية مشابهة، تصبح المعلومات التي تتحدّث عن هذه النيات لدى أهل المنطقة، أكثر جدّية.
أما خطورة ذلك، إلى جانب الهاجس الأمني المتفلّت من عقال الدولة، فيكمن في السياسة أيضاً، وتحديداً في احتمال تقاطع هذا الكلام مع رغبة طرفٍ من الطرفين الأخوين، في التقاط الفرصة وتوظيفها في إطار الحسم النهائي على طريقة Once for all وذلك من أجل تثبيت السيطرة على الطريق الجديدة، ذلك المعقل السنّي الأخير في بيروت، الذي لم يتوقف نزفه الجماهيري يوماً، منذ الانتخابات النيابية الأخيرة.
[VIDEO]