الأمل وتمثال المغترب في عداد المفقودين!

مدة القراءة 3 د


لم أستطع بعد وقوع الانفجار في المرفأ إلا أن افكر في تمثال المغترب اللبناني. قد يقال إنّ التفكير في تمثال من حجر في أوقات كهذه فيه شيء من القسوة وربما قلة الأخلاق. وقد فكرت في هذا أيضاً، ولجمتُ الفكرة أكثر من مرة. لكنني بعد الاطمئنان إلى عائلتي التي كانت في بيروت لحظة وقوع الانفجار، عاد ليلمع في رأسي تمثال المغترب. لمع أيضاً وأنا اشاهد صورة “الفطر” الذي سبّبه الانفجار في سماء بيروت، والذي يشبه في مخيالي صورة قصف هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين اللتين حفظناهما من كتب التاريخ في المدرسة. شاهدته هناك في الصورة، وفكرت: ماذا حلّ به؟ هل تفتت وتشظّى لينهي كلّ نظرة تركب مراكب المدى هناك صوب البحر، وما بعد البحر؟ هل طار التمثال من مكانه؟ ماذا حلّ به وهو الملاصق للمرفأ، والقريب جداً من مكان التفجير؟

إقرأ أيضاً: لغز العنبر رقم 12

لماذا فكرت به؟ لأنني منذ مدة، ككثير غيري من اللبنانيين، أفكّر في الهجرة. ليست مجرّد فكرة، بل انتقلت إلى مرحلة التخطيط. ومثل كثيرين غيري، فكّرت وخطّطت أنني سأرحل بلا عودة، سأذهب إلى بلاد بعيدة حتى لا يعود بمقدور الحنين أنّ يشدّني من يدي التي تؤلمني. وفكرت مراراً وأنا أمرّ بجانب التمثال في الطريق إلى بيروت من جهة الكرنتينا، أنّ هذا التمثال هو الرمز الوحيد الذي يمثّلني في هذه البلاد التي تدفع بجميع أبنائها إلى البحر، إما لإغراقهم، أو لطردهم بعيداً في سفن ومراكب. وفكرت مراراً أنّني حينما أترك هذه البلاد، بحراً أو جواً، سأحرق خلفي جميع المراكب، بالمعنى المجازي للكلمة، حتى لا أعود قادراً على العودة.

هذا الانفجار قتل البقاء وقتل الهجرة. قتل الرحيل وقتل العودة. كلهم في عداد الموتى

انفجار المرفأ اليوم هو بهذا المعنى إحراق لجميع المراكب، وللميناء التي تنطلق منها وتعود إليها. انفجار هذا المرفق الحيوي الأساسي هو تشظّي لكلّ الفكرة اللبنانية القائمة على التجارة والسفن والارتحال والبحر المفتوح على التبادل، والذهاب والإياب، والمدّ والجزر. هذا انفجار يكسر جميع الأمواج، ويحرق جميع الأشرعة، بكلّ المعاني. لهذا لمع التمثال في رأسي. رأيت نظرته وهي تتحطّم بالعصف، وشاهدت بالعرض البطيء في خيالي تشظيّه إلى رماد.

الضحايا المباشرين لهذا الإنفجار كثر. قتلى وجرحى بالآلاف. وأضرار مادية واقتصادية لا يمكن حصرها أو إحصاؤها. دموع ودماء كثيرة. نار ورماد وغبار سام يغطي المدينة، ولا مطر. لن تمطر السماء في آب. لن تغسل هذا الموت الأسود الذي يغطي سماءنا. لكن أبعد من كلّ ذلك، وأقسى من كلّ ذلك، أن هذا الإنفجار قتل البقاء وقتل الهجرة. قتل الرحيل وقتل العودة. كلهم في عداد الموتى. أما الأمل، مع تمثال المغترب، ففي عداد المفقودين.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…