ساعات قليلة فصلت بين التهديدات التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صباح أمس الثلاثاء، وبين التفجير الرهيب في مرفأ بيروت، الذي هزّ بيروت وعرش “العهد القوي”، ولا أحد في هذه الجمهورية المنكوبة يمتلك حتّى اللحظة رواية منطقية متماسكة لتفسير ما حصل للبنانيين الذين فقدوا أحبّة لهم وتدمّرت ممتلكاتهم برمشة عين.
إقرأ أيضاً: لغز العنبر رقم 12
المشهد الكارثي الذي حصل في وقت متاخر من مساء أمس، أعاد الناس بالذاكرة إلى ما يحصل منذ أسابيع في مناطق ومراكز حيوية في الداخل الإيراني: حرائق مجهولة تعقبها تفجيرات من دون أن تتبنّاها أيّ جهة، اعتاد الجمهور العربي على تسميتها “ماس كهربائي” للسخرية من نكران إيران والنظام السوري التعرّض لهجمات إسرائيلية، والحديث عن “ماس كهربائي” تسبّب بحريق. كما يحصل منذ أشهر في الداخل السوري كذلك.
صور تُظهر طائرة في محيط التفجير، لكن لم يُعرف إن كانت الصورة مركّبة أو صحيحة
تصريحات نتنياهو الموجّهة إلى “حزب الله” أمس، ليست بعيدة عن هذا السيناريو. أطلقها بعد يوم واحد من استهداف إسرائيلي لمواقع تابعة للجيش السوري ولقواعد إيرانية قرب الحدود مع العراق. نتنياهو قال خلال زيارة لمقرّ قيادة الجبهة الداخلية: “أصبنا مجموعة والآن أصبنا أولئك الذين أرسلوها. سنقوم بكلّ ما يجب أن نقوم به من أجل الدفاع عن أنفسنا. أنصح الجميع، بمن فيهم حزب الله، في أخذ ذلك بالحسبان… هذه ليست تصريحات فارغة، وإنما تصريحات من العيار الثقيل من إسرائيل وجيش الدفاع ومن الجدير التعامل معها بكلّ جدية”.
سيناريوهات وصور وتسجيلات صوتية كثيرة خرجت إلى العلن وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي. صور تُظهر طائرة في محيط التفجير، لكن لم يُعرف إن كانت الصورة مركّبة أو صحيحة. فيديوهات أخرى أظهرت فعلاً حريقاً لمفرقعات في واحد من أرصفة المرفأ، أعقبها التفجير الهائل والعصف الذي طال أقاصي العاصمة بيروت. وتسجيلات لمواطنين تؤكّد سماع أصوات طيران حربي. كلّ هذا دفع البعض نحو الاستنتاج أنّ التفجير ناجم عن استهداف شحنة صوايخ لـ”حزب الله”. كلّ ذلك بسبب هول التفجير وقوة العصف وعامود الدخان الذي يشبه الانفجار النووي برأس الفطر الذي صنعه. لكنّ مصدراً مطلعاً مقرّباً من حزب الله قال لقناة otv أن لا صحّة لكلّ ما يتم تداوله عن ضربة إسرائيلية لأسلحة في المرفأ.
الرواية بدت “بارافان” أو واجهة. سيناريو “حمائي” لظهر “حزب الله” هدفه نفي الفرضية الأمنية – العسكرية، من أجل عدم إحراج الحزب في اضطراره إلى توجيه أيّ ضربة انتقامية غير قادر على تبعاتها
وليل أمس خرج المحلل السياسي رياض قهوجي عبر mtv في برنامج “صار الوقت” مع مرسيل غانم، ليؤكّد أنّ “الانفجار هو قصف إسرائيلي واضح لشحنة صواريخ لحزب الله”. وأضاف: “إسرائيل لم تكتفِ باستهداف مناطق محدّدة في سوريا، ولم تترك المواجهة في سوريا بل هي نقلتها بشكل رسمي إلى لبنان باختيار هدف كبير أحدث دماراً كبيراً، وأحدث صدمة في كلّ لبنان”. وتابع: “هذا القصف يضع الحزب بموقف حرج على أكثر من صعيد. ليس عليه فقط أن يقرّر إذا كان سيردّ ويدخل في حرب، بل عليه أن يبرّر للبنانيين استخدامه منشآت مدنية بالعاصمة لتخزين صواريخه”، وسأل ختاماً: “هل هناك مخازن أخرى في مناطق مدنية؟ الله ينجينا”.
أما الرواية الرسمية اللبنانية حتّى اللحظة، فتؤكد أنّ التفجير سببه سوء تخزين مواد عمرها 9 سنوات من نيترات الأمونيوم شديدة الانفجار، التي تُستعمل في صناعة المتفجرات. الرواية بدت “بارافان” أو واجهة. سيناريو “حمائي” لظهر “حزب الله” هدفه نفي الفرضية الأمنية – العسكرية، من أجل عدم إحراج الحزب في اضطراره إلى توجيه أيّ ضربة انتقامية غير قادر على تبعاتها، خصوصاً بعد نفي “حزب الله” للفرضية العسكرية سريعاً، الذي قابلته تل أبيب بنفي مماثل، نقلاًً عن “مسؤول إسرائيلي”. ثم أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي للقناة 12 الإسرائيلية، أنّه لا يرى “سبباً لعدم تصديق التقارير الصادرة من بيروت حول أنّ الانفجار كان حادثا”.
لكن وسط كلّ هذا الدمار والفوضى، لم يخبرنا أحدٌ في هذه الدولة بماذا تُستعمل هذه المادة، ومن هي الجهة التي استوردتها، ولماذا أفرغتها في المرفأ منذ العام 2014 أو 2011، أو لأيّ غرض وإلى متى؟
من سخرية الأقدار أنّ مادة نيترات الأمونيوم نفسها ضُبطت في مستودعات تعود لعناصر من “حزب الله” في إحدى المدن الألمانية منتصف شهر أيار الفائت. بل هي المادة نفسها التي هدّد الأمين العام لـ”حزب الله”، إسرائيل ذات يوم، بقصف مخزونها في مرفأ حيفا، فهرع العدو لنقلها إلى مكان آمن ويبعد عن مدى صواريخ “حزب الله”، حماية لناسه.
أما في لبنان، فجهة مجهولة أحضرت نيترات الأمونيوم من أقاصي الأرض إلى أراضينا، من دون أن نعرف لماذا، وضعناها في مرفأ بيروت لسنوات وانتظرنا موتنا… أو قلنا للعدو: Push the trigger.