حكاية أخرى لا تركن إلى منطق، ولا يقبلها عقل، لكنها حقيقية. حصلت فعلاً، وتحصل دائماً في لبنان، وربما في غيره من بلدان اللجوء السوري. يموت سوري هنا في لبنان، وتبدأ رحلة الذلّ، كما حدث مع محمد خطاب الذي توفي منذ أيام في بلدة كفرمان الجنوبية، وبقيت جثته لأيام في “مستشفى النجدة الشعبية”، بسبب رفض دفنه في كفرمان بحجة أنّه سوري الجنسية. ويعود الأمر إلى خوف القيّمين على الدفن من تكرار ما حدث قبل خمس سنوات حينما ألزمت الدولة إمام البلدة، عبر قرار قضائي، نبش قبر ورفع جثّة مواطن سوري ودفنها في مكان آخر.
إقرأ أيضاً: سوريا: الحرب “الثرية” والسلْم المفلس
في كفرمان كان المانع من دفن جثة محمد قانونياً. في بلدة عاصون، في شمال لبنان وفي أيلول من العام 2019، نبش ابناء البلدة قبر طفل سوري توفي عن عمر أربع سنوات بذريعة أن “المقبرة مخصصة للبنانيين فقط”. حينذاك، قام “حارس التربة” أو حفّار القبور، بنبش قبر الطفل وانتشال جثته وإعادتها إلى أهله ليقوموا بدفنه في مكان آخر. بهذه البساطة، لا يرتاح السوريون حتى بعد موتهم. فيلاحقهم إلى القبر، ذلك الذلّ، الذي نادوا في بدايات ثورتهم بالموت بديلاً منه عبر شعار “الموت ولا المذلة”. حكايات الموت والمذلّة لا تكاد تنتهي وبعضها يبدو لوهلة كأنه من نسج الخيال أو السينما، كأن يقوم رجل سوري باستلام جثة طفله من المستشفى بصندوقة من الكارتون، ويحمل ابنه جثة تحت جنح الظلام في سيارته ليبحث له عن قبر في أرض مهجورة ويدفنه هناك من دون أن يترك شاهداً أو أثراً يدله أو يدلّ الآخرين إلى قبره خوفاً من أن يقوم أحد بنبشه. يحمي قبر ابنه عبر دفنه في المجهول. يدفنه بلا أثر يذكر كي يمنع عنه الذل بعد الموت. لكم ان تفكروا في هذا الأب، أو في أم الطفل، صبيحة عيد الأضحى!
لا يرتاح السوريون حتى بعد موتهم. فيلاحقهم إلى القبر، ذلك الذلّ، الذي نادوا في بدايات ثورتهم بالموت بديلاً منه
حكاية أخرى ستعثر عليها وأنت تبحث عن قصص الذل هذه، هي لسيدة أُجبر أبناؤها على استلام جثتها من المستشفى لعدم توفر مكان في براد الموتى، ولما تعذر إيجاد قبر لها، اضطر أولادها إلى وضع الثلج الذي يستخدم في المشروبات بكميات كبيرة على جثتها لأيام، لمنعها من التحلّل، ريثما يعثرون لها على تراب يستقبل جثمانها. قصص يندى لها الجبين وأنت تقرأ عنها، وتتخيل مدى الأسى والذل الذي عانى منه من عاشوها لأسباب شتى، منها التعقيدات القانونية الفارغة، ومنها التراكمات العنصرية التي تميّز بين البشر فوق التراب وتحته، مع أن “كل الذي فوق التراب تراب” على ما يقول أبو فراس الحمداني.
في عاصون قام شيخ يدعى خالد عبد القادر بالتبرّع بقطعة أرض لدفن الطفل الذي نبشت جثته. وفي بلدة أخرى في البقاع، بعد رفض جميع البلديات والمقابر جثة طفل سوري، قامت سيدة لبنانية تدعى صبيحة فياض بفتح قبر ابنها لدفن الطفل السوري إلى جواره، هناك يتعانق الطفلان تحت التراب في محاولة غسل عار العنصرية التي تحفر عميقاً في تربة المجتمع اللبناني. هاتان الحكايتان تضيئان شيئاً من عتمة واقع بات يهيل التراب على الأخلاق والمنطق والإنسانية. خصوصاً أن الدفن في ثقافات السوريين واللبنانيين على اختلاف مذاهبهم ومللهم هو لـ”إكرام الميت”. وغالبا تحول أسباب كثيرة دون هذا الإكرام. بعضها مالي بسبب غلاء القبور في بعض المناطق اللبنانية وندرتها، بسبب التوسع العمراني، وبعضها طائفي وعنصري، وبعضها قانوني في بلاد يموت فيها العدل ليحيا القانون.
قامت سيدة لبنانية تدعى صبيحة فياض بفتح قبر ابنها لدفن الطفل السوري إلى جواره
في كفرمان لم أعرف كيف انتهت قصة محمد خطاب، وهل وجدوا له قبراً خارج البلدة أم لا يزال ينتظر في البراد حتّى تقبله الأرض التي قال فيها الشاعر (السوري – من معرّة النعمان) أبو العلاء المعري: “خفّف الوطءَ ما أظنُّ أديمَ الأرض إلا من هذه الأجساد”، لكنها هنا، في هذه الـ10452 كيلومتراً مربعاً تضيق بجثث من هربوا من الموت والمذلّة في بلادهم، ليلاقوا الموت والمذلّة في بلادنا.