المعارضة الشرسة لسدّ بسري تعاني من منسوب مرتفع من التسييس. ففي حمأة الحجج والحجج المضادّة، تختلط السرديات السياسية بالمعطيات التقنية، ويصبح الفرز بينها مهمة شاقة.
لكنّ الكثير من عناصر البديهة تميل إلى صفّ المشروع. السدّ، كما هو واضح، ضرورة ملحّة لتفادي كارثة مائية في بيروت الكبرى، تزداد استفحالاً مع النموّ السكاني السريع، ولا يبدو من كلام المعارضين للسدّ أنّهم يدركون حجمها، أو يدركون قيمة الوقت الذي يتطلّبه حلّ الأزمة، والذي لا يقلّ عن خمس سنوات اعتبارا من بدء أعمال التنفيذ.
إقرأ أيضاً: “البنك الدولي”: أموال “بسري” لمواجهة كورونا بدلاً من خوري – دنش
تقديرات البنك الدولي تشير إلى حاجة بيروت الكبرى إلى 305 ملايين متر مكعب بحلول 2030. من أين تأتي هذه الكمية من دون تخزين المياه السطحية؟ قدّم المعارضون بدائل لا تصمد في النقاش الفني. يتحدّثون عن المياه الجوفية والهدر في شبكات التوزيع.
خفض التسرّب من شبكات التوزيع يوفر 130 مليون متر مكعب بحسب بيانات وزارة الطاقة
المياه الجوفية لا يمكن أن توفّر بديلاً مستداماً. فلبنان يستنفد مخزونه الجوفي بشكل جائر أصلاً. إذ إنّ في بيروت ومحيطها الآن 80 ألف بئر، ربعها فقط مرخّص، ومن يعيش في بيروت يدرك مدى ملوحة مياه هذه الآبار، وحاجتها للمعالجة، وحاجتها للطاقة لاستخراجها.
أما الهدر، فمعالجته استحقاق لا بدّ منه. إذ إنّ بيانات نشرتها وزارة الطاقة العام الماضي تقدّر نسبة التسرّب في شبكات التوزيع بـ48%، وتشير إلى أنّ خفض الهدر إلى 30% يمكن أن يوفر 130 مليون متر مكعب، أي ما يزيد على كامل المياه التي يوفر سدّ بسري. لكن هذا الوفر لا يكفي لتغطية كامل العجز المائي في بيروت والمناطق الأخرى.
أما المعارضة البيئية فهي مزايدة في غير محلها، لأنّ نشطاء البيئة عندنا ليسوا أدرى من البنك الدولي على هذا الصعيد. صحيح أنّ هناك انتقادات كثيرة للسدود، لأسباب بيئية – أيكولوجية واقتصادية تتعلّق بالمجتمعات التي تزيلها السدود، إلا أنّ مشروع سدّ بسري أخذ هذه المخاوف في الاعتبار، ولحظ خطة للتأهيل البيئي والتعويض الأيكولوجي في البحيرة ومحيطها.
وتبقى المسائل المتعلّقة بطبيعة التربة، ومدى صلاحيتها للتخزين، ومسائل التكوين الجيولوجي، ومخاطر الزلازل، وهي أيضاً اعتبارات يمكن التوصّل إلى تقييم موضوعي في شأنها من خلال التقييم الذي يجريه البنك الدولي.
المياه الجوفية لا توفّر بديلاً مستداماً لأنّ لبنان يستنفد مخزونه بشكل جائر أصلاً
ما يستحقّ التوقف حقيقةً، مسألتان: الأولى هي ارتفاع تكلفة المشروع، والثانية هي رجاحة القرار بنقل مياه الليطاني (بحيرة القرعون) ونهر الأوّلي، إلى بيروت الكبرى.
في المسألة الأولى، تشير البيانات الرسمية إلى أنّ مشروع سدّ بسري يهدف لتوفير 105 ملايين متر مكعب من المياه العذبة لنحو 1.6 مليون نسمة في بيروت الكبرى وساحل الشوف، تقدر تكلفته بنحو 617 مليون دولار. وفي بيان لمجلس الإنماء والإعمار منشور في موقع جريدة “النهار” بتاريخ 2 آب 2019، يقول إنّ التكلفة الحقيقية للمتر المكعب في مشروع سدّ بسري تبلغ 400 ليرة، أي 26.5 سنت (على سعر الصرف الرسمي)، هذا على افتراض دقّة التوقعات المتعلقة بحجم المتساقطات التي سيخزنها السدّ.
فما هي البدائل “الاقتصادية” لهذا المشروع بهذه التكلفة المعلنة؟
المدهش أنّ هذه التكلفة قريبة من تكلفة تقنية تحلية مياه البحر، المعروفة باسم “التناضح العكسي – reverse osmosis”. فعلى سبيل المثال، تنشئ أبوظبي محطّة الطويلة حالياً باستثمارات إجمالية تصل إلى ثلاثة مليارات درهم، أي نحو 800 مليون دولار، لتوفير 332 مليون متر مكعب سنوياً (909 ألاف متر مكعب يوميا)، أي ثلاثة أضعاف ما يوفّره سدّ بسري. وفي مثال آخر، أعلنت إمارة دبي في شباط الماضي أنّ مشروعاً جديداً لتحلية المياه بـ”التناضح العكسي” استقطب عرضاً قياسياً متدنياً بتكلفة 30 سنتا للمتر المكعب.
في هذه الحال تصبح تكلفة التحلية قريبة جداً من تكلفة تخزين المياه السطحية، وهذا حقّاً مدهش!
تكلفة مياه بسري تصل إلى 26 سنتاً للمتر المكعّب مقارنة بـ30 سنتاً لتحلية مياه البحر في دبي!
طبعا، لا بدّ من الأخذ في الاعتبار التبعات البيئية لتحلية المياه أيضاً، إذ إنً إعادة ضخً المياه العالية الملوحة يتطلّب مراعاة معايير دقيقة لئلا تؤذي البيئة البحرية. كما أنّ محطات التحلية تتطلّب توفّر طاقة كهربائية لتشغيلها، وتلك مشكلة عويصة في لبنان. غير أنّ آخر التطوّرات التقنية في محطات “التناضح العكسي”، وصلت إلى خفض الطاقة المستخدمة في محطات التحلية بنسبة 90% مقارنة بالتقنية التقليدية للتقطير الحراري، لتصل إلى 3 كيلووات فقط للمتر المكعب في آخر المحطات التي أرستها أبوظبي.
اللافت هنا أنّ وزارة الطاقة والمياه تلحظ الحاجة إلى محطات التحلية بعد العام 2040، حين تستنفد كامل الموارد الأخرى المتاحة، وتشير إلى التكلفة المرتفعة من حيث الطاقة المستخدمة في هذا النوع من المحطات.
ثمة بديلان آخران من الوجهة الاقتصادية، وكلاهما لا يمكن الجزم بجدواه إلا بعد تدقيق فني بعيد عن السياسة: أحدهما يجري على لسان الخبراء كثيراً، وهو استجرار المياه من النصف الشمالي من لبنان، نظراً لتوافر الكثير من الينابيع في أقضية المتن وكسروان وجبيل، والخيار الآخر الذي لا يُحكى عنه كثيراً هو ينابيع المياه العذبة تحت سطح البحر، التي تقدّر وزارة الطاقة والمياه مواردها بنحو 385 مليون متر مكعب، أي ما يقارب أربعة أضعاف ما يوفره مشروع سدّ بسري، لكن لا تتوفر دراسة اقتصادية لتكلفة استثمار هذه الينابيع.
حسابات الجدوى لا بدّ أن تنطلق من “الفرصة البديلة” (opportunity cost). فإذا كانت ثمة فرصة أقلّ تكلفة، وأقلّ مخاطر فلا بدّ من وضعها على الطاولة. لكن الأكيد أنّ حلّ مشكلة المياه للسنوات الثلاثين المقبلة يحتاج إلى مقاربة شاملة لكيفية تخصيص الموارد واستثمارها، بدلاً من المقاربات الجزئية التي تحلّ مشكلة في مكان ما، وتخلق مشاكل أكبر في مواضع أخرى.
هنا تأتي مسألة مهمة من الوجهة الاقتصادية والتنموية، هي مدى رجاحة نقل مياه الليطاني والأوّلي إلى الحزام المديني في محيط بيروت، أخذاً في الاعتبار حاجات السكّان والزراعة في المناطق التي تُجرّ منها المياه، وذاك هو موضوع الحلقة المقبلة.
في الحلقة الثانية: سد بسري(2/2): ماذا عن البقاع الغربي والجنوب؟