هل كان لبنان منذ ولادته فعلاً “وطن نهائي لجميع أبنائه وبناته”؟
هل كنا نحن من أبنائه لهذا الأب “لبنان”، أو نحن من أنجبناه من جينات خرافاتنا وسمّيناه لبنان، وغنّجناه تارة ليبان أو ليبانون أو لبنيين. أو أننا تبنّيناه أو تبنّانا في لحظة فاعل خير أممي؟ هل كان الحَبل بهذه البلاد الجنينية وهماً وصدقنا؟ هل ولد لبنان كلقيط مرميّ على هذا الساحل نتيجة زنى محارم بين التاريخ والجغرافيا في لحظة طيش دولية؟ وكبر وراح الأن يفتش عن أهله؟
إقرأ أيضاً: مَن يقرأ مَن؟
هل انتهى عقد الإيجار بيني وبين “لبنان”؟. لكن لا أعلم حتى هذه اللحظة، هل أنا مستأجر وطناً أو مالك أو مملوك لوطن؟ من كان يسكن الآخر؟ هل أنا من سكّانه أو أن لبنان كان يسكنني منذ نصف قرن وغادرني فجأة بلا إنذار؟ من هو المالك الأصلي لهذا المبنى الآيل للسقوط على سكّانه الذين يتشاجرون كجيران على المبنى اللبناني لمن؟ المعنى اللبناني لمن؟ الأرض أصلا لمن؟
لا أعرف هوّيتي العقارية. هل لديّ حقوق مستأجر قديم أو حقوق مالك قديم وسط هذه الحرب العقارية الدولية على ملكية الأرض وما على عليها وما تحت تحتها؟
لا نعرف نفسيتنا المتهالكة. هل نحن مازوشيون أم ساديون؟ حين يطردنا بلدنا في بلدنا، لماذا نتمسّك به وهو يدفشنا على درج سفارة أو يلبطنا صوب درج طائرة، وحين يغرب لبنان عن وجهك، ويطبش الحدود، ويقفل أبواب المصارف في وجه جيبتك، يقفل أبواب الأفران أمام فمك، ويقفل أبواب المستشفيات على باب بدنك، وبعد كلّ هذا الأقفال لماذا نشرع للبنان أيدينا؟ نعانقه بالأغاني لهذا الذي يتلذّذ بتعذيبنا. وطن تفتح له صدرك فيطعنك في ظهرك، تحضنه فيخنقك، تنوّر له عمرك فيخمد أنفاسك. يا غريب يا عجيب، وطن تشرب نخبه ويسمّم كأسك.
هل وقعنا في حيص بيص حب وحرب، نحب ونحارب من نعذبه ويعذبنا… هل أنا وأنتم ولبنان بحاجة لعلاج نفسي؟
وهكذا لما بلدك يستغني عن خدماتك، ويجبرك بالقوة على الاستقالة منه. لماذا نبقى مشتاقين له وملهوفين عليه؟ معقول نكون مازوشيين ونحب من يعذّبنا بقطع الكهرباء وقطع الأرزاق وقطع الطرقات وقطع الأنفاس؟ أو معقول يكون بلدنا سادياً يحبّ تعذيب عشّاقه من طرف واحد، فيتبغدد علينا ويذلّنا ويكهربنا بالمهانات المتتالية؟
كأن يضحك علينا بمطره الذي ينهمر، ولا يتحوّل إلى ماء شرب. وبحره يضحك من تياراتنا السياسية التي تغرقنا وتلتهمنا وتحوّلنا إلى ملح في موجها؟
برّه مفلوح، بحره مقدوح، جوّه مفتوح، شعبه مذبوح وفرحان ومفروح…
هل وقعنا في حيص بيص حب وحرب، نحب ونحارب من نعذبه ويعذبنا… هل أنا وأنتم ولبنان بحاجة لعلاج نفسي؟
وبينما أردّد هذا المونولوغ أمام مرايا البيت، حدث انفجار ضخم في الهواء.
خرج صديقي من المرآة وقال لي: “أنا لا أملك شقة، ولا أرضاً، لا في لبنان ولا في الجوار ولا جوار الجوار. فمتل إجري تغيير الخرائط والأراضي والحدود والجغرافيا والديموغرافيا. جسدي عقاري الوحيد. بتتقسّموا بتتشقّفوا. آخر همّي”.
“إجري التي تمشي وتقف هي حدودي وحدودكم. كنْ مثلي”. ثم عاد الصديق إلى المرآة. ألتفت خلفي، فوجدت حقيبة سفر تبتسم لي. وجواز سفر على الطاولة يغمزني. وحده الباب الخارجي يعبس في وجهي، ونهض الباب من مسكته، ووضع المفتاح كمسدّس في رأسي.
لا أستطيع الفرار منكم ولا البقاء بينكم. أنا الخاطف والرهينة. لا أستطيع إطلاق سراحي من حبال هواء لبناني أحبّه، ويخنقني وأتنفّسه.
أنا المقيم المنفيّ في مرايا البيت. الصالون وطني. والمطبخ عاصمتي. غرفة النوم مهجري. الكوريدور ترانزيتي. وما أجمل الغربة تحت الدوش. هو البيت كرتي الأرضية تدور على لسان الطابق الثامن والخمسين من عمري. وما البيت سوى رأسي الذي يدور كمواطن يفتش، لا ينقصه سوى دولة…