هناك مصطفى علوش واحد في “تيار المستقبل” لا غير. نسخة عاصية على التقليد لكثير من الأسباب. السياسي المختلف عن “السائد” المستقبلي يعكف من ضمن الورشة التنظيمية داخل “تيار المستقبل” على تحضير الأوراق المتعلّقة بالفلسفة والورقة السياسية والاقتصادية للتيار.
ومن ضمن الورشة محاولة لاستعادة ما يشبه الـthink tank . هي مجرّد محاولة بعدما شَعر كثيرون أنّ نجل رفيق الحريري أبعَدَ من يجب ألا يبتعد عن دائرة القرار.
إقرأ أيضاً: بالأسماء: سرايا المقاومة تخرّب طرابلس.. علّوش: مناطق السنّة مخترقة ويائسة وفاقدة للقيادة
ربّما قد تكون هذه المرحلة حاسمة في مسار علّوش الحزبي. لا فكرة لديه عن موقعه المقبل في التركيبة “الرئاسية”. ولا يسعى لأن يعرف ولا يضع شروطاً. رجلٌ مثله، بتجربته وخبرة الـ 22 عاماً، يُنتظر أن يكون له مساحة واسعة في إدارة التيار خلال المرحلة القادمة.
سبق وانتظر، ولم ينل ما يستحق. لن يفعلها ثانية. هو سيحكم على النتيجة: “إذا تكرّر الأمر سأذهب الى بيتي وأكتب. لكن لن أترك الحزب”.
هو من قلّة قليلة تقول لسعد الحريري ما يجب أن يَسمعه بصراحة وجرأة لا ما يُحِب أن يسمعه. والحريري، برأيه، مستمع جيّد كوالده. لذلك صوته كان عالياً جداً تحت سقف الالتزام الحزبي، فلم يَحرَد يوماً ولم يغادر. مطبخ التسوية الرئاسية شاهد على ذلك، وكثيرة هي المحطات السياسية التي علّمت في الجسد الأزرق. هو اليوم لا يرى في سعد الحريري رئيساً للحكومة للمرّة الرابعة إلا على رأس حكومة من المستقلّين “الحقيقيين” وإلا “بلاها”.
من يعرف نائب طرابلس السابق أو يتابع مقالاته يعرف حجم سِعته المعرفية الهائلة. راقٍ ومتواضعٌ وواسع الثقافة. ذو سيرة ذاتية نظيفة، ومن يريد أن يعلّم عليه، ولو عن طريق المزاح، يعيب عليه فقط ارتباطه الحزبي بتيار المستقبل!
مَن غير الثائر يستطيع أن يرمي معادلة تفتي بالآتي: “قد تكون الصدفة القاتلة هي التي جمعت النزق الخبيث للنظام السوري والتحجّر العقائدي لحزب الله مع الأزمة النرجسية للجنرال ميشال عون. هي ثلاثية “العاصفة الكاملة” التي تخلّف بعدها الكوارث”.
هو من قلّة قليلة تقول لسعد الحريري ما يجب أن يَسمعه بصراحة وجرأة لا ما يُحِب أن يسمعه
لا حدود ولا سقف في “مدرسة” علوش للمعارضة. مع استلام سعد الحريري دفّة السلطة التنفيذية، مَال مع تقلبات “الشيخ”، من خصومته السياسية مع سوريا و”السين سين”، والخصومة مع حزب الله، ثم ربط النزاع معه وصولاً الى أحضان التسوية الرئاسية. لكن من دون أن يفقد “الدكتور” يوماً البوصلة أو يتخلّى عن المسلّمات.
في الوقت الذي كان يحيك الحريري خيوط التسوية مع “الجنرال” وصهره، كان علّوش يفتي باعتبار وصول ميشال عون إلى بعبدا بمثابة “انتحار سياسي”.
عضّ “الدكتور” على جرح 31 تشرين 2016 وانخرط في الدفاع عن خيار “الشيخ سعد” بوصفه حبل نجاة الحفاظ على الاستقرار السياسي، ليتحرّر بعدها تدريجاً من قيود تسوية “خرّبها” جبران باسيل، كما كرّر دوماً، فأضحى أول الراقصين بفرح على ضريحها.
هو بالتأكيد أحد أبرز “مؤرشفي” ما جنته التسوية الرئاسية على الحريري وقيادات تياره وعلى رحلة الزعامة ومصيرها.
حتّى البداية لم تكن تقليدية. في فصل من تحصيله الجامعي عام 1983، يستنجد الطالب اليساري مصطفى علوش بمؤسّسة رفيق الحريري لإكمال دراسته. في الظاهر انتقل من حضن ماركس وإنغلز ولينين إلى طلب النجدة من تيار “المال والسلطة والنفوذ والاستثمارات الضخمة”. أما في عمق تركيبته “المدكوكة” أيديولوجياً، فالمزاوجة كانت ممكنة. وعلى أساسها لا يزال “طبيب الفقراء” صامداً محارِباً بصمت في “تيار سلطوي” أسّس له رجل أعمال قاد لاحقاً مشروع إعادة إعمار بلد أنهكته الحرب الأهلية. ومن المشروع تسرّبت أفكار وسياسات لا تلتقي مع مفاهيم ابن باب التبانة، إحدى أكثر حارات طرابلس فقراً وعَوَزاً. لكن مع مصطفى علوش نجحت المواءمة.
لم يتخلّ يوماً عن يساريته التي صارت تتماهى أكثر مع اليسار الأوروبي. بعد تجربة الأحزاب اليسارية التي يصفها بـ “التافهة”، وبأنّها ضَربت منطق الاشتراكية كما في سوريا والعراق ومصر والجزائر، وبعد تجارب الديكتاتوريات العسكرية وتجربة الاتحاد السوفياتي الكارثية، ذَهَب إلى دراسة هادئة استنتج من خلالها أنّ “الحرية هي أساس عمل البشر”، ومن ضمنها حرية الخيار بالاقتصاد. أي اختيار طريقة الاسترزاق بتوزيع القدرات لاستقرار المجتمع بين من هو ناجح وبين من يحتاج إلى دعم لينجح.
حتّى البداية لم تكن تقليدية. في فصل من تحصيله الجامعي عام 1983، يستنجد الطالب اليساري مصطفى علوش بمؤسّسة رفيق الحريري لإكمال دراسته
هذا ما يسمّيه “اليسار الليبرالي”، وبرأيه أنّ سياسات رفيق الحريري وازنت بين النظريتين. يسلّم بأننا دولة اشتراكية بمظهر رأسمالي. يراها “رأسمالية الإقطاع والسلبطة والاقتصاد المنغلق المحصور بمجموعات صغيرة تهيمن على كلّ شيء، يصدف في لبنان أنّ قياداتها هم زعماء الطوائف.
السياسي العصامي الآتي من عائلة عادية، من أب سنّي وأمّ علوية، شقّ نادي العائلات الكبيرة في طرابلس منافساً من فيها وصانعاً حضوراً شعبياً من رصيده الشخصي: لا رصيد حزب ولا زعيم.
“خلطة” التعايش تحضر جينياً لدى طبيب الفقراء، ثم بالممارسة لتصبح مصدر غنى وانفتاح له. لم يعرّف يوماً عن نفسه بكونه سنّياً. هو الإحساس بالانتماء إلى أيّ أنسان مظلوم في العالم من طرابلس إلى آخر أصقاع الأرض.
بذلك ربما كان أكثر من ذاق مرارة السلاح والمتاريس التي رفعت بين باب التبانة وجبل محسن، وكلّفه الأمر التعرّض للأذى المباشر من أبناء ملّته يوم جاهر بتحميل بعض أطراف باب التبانة أيضاً مسؤولية الخراب والدمار الذي حلّ بالمدينة.
أصحاب المليارات في طرابلس بالنسبة اليه “أجبن رأسماليين على وجه الأرض. بخلٌ غريب، وخوفٌ من أيّ مباردة “تفتح” الاقتصاد. لا مشاريع استثمارية حقيقية. الرأسمال الطرابلسي يستند إلى الأملاك والأموال المكدّسة في المصارف مع فوائدها، أو إلى المصالح خارج المدينة ومن عائداتها يتمّ التبرّع للفقراء”.
عقلية ريعية كان لعلوش الجرأة في انتقاد تياره السياسي الذي اعتنقها كـ”مذهب” في العمل السياسي. هو يرفضها حتّى في عمل الخير.
السياسي العصامي الآتي من عائلة عادية، من أب سنّي وأمّ علوية، شقّ نادي العائلات الكبيرة في طرابلس منافساً من فيها وصانعاً حضوراً شعبياً من رصيده الشخصي
الطبيب الجرّاح الذي يحضّر حالياً رسالة ماجستير بالفلسفة في جامعة الكسليك، هو لاعب جودو أيضاً. بطل لبنان لثماني سنوات، ومشارك في بطولة العالم، وحالياً مدّرب في عمر الـ62. الجراحة والجودو صقلا تجربته في السياسة. بتشريح الحالة وباستيعاب الخصم.
لن يشعر بالإحراج حين يُسأل إن كان تمرّسه في الفن القتالي لم يجنّبه الضربات المتتالية التي أوقعته أرضاً. ويصدف أنّها من فريقه السياسي.
لم يأخذ منسّق طرابلس السابق موقعه المفترض في التركيبة الحزبية، ولا في السياسة، عبر تسليمه حقيبة وزارية مثلاً، أو “تفعيل” نيابته الجامدة منذ 2009. بعفوية مطلقة يجيب: “ما حدن منهم قادر يجيبني بالأرض. لو هذا الأمر صحيح، لما كنت حتى اليوم مناضلاً داخل تيار المستقبل”.
لم يتخلّف المحارب الشرس يوماً عن أداء واجب الالتزام، وأحياناً بخلاف قناعته، منذ انخراطه في صفوف “تيار المستقبل” عام 1998، وهو كان أحد مؤسسيه. عام 2005 كان الانغماس الكامل مع زملائه في المعسكر الأزرق في ثورة 14 آذار. ومنذ ذلك الحين تمترس الجرّاح على جبهة المدافعين بصدورهم عن “التيار” وأهله، لكن على طريقته.
صفّق لميادين الثورات المشتعلة من تونس إلى مصر واليمن وليبيا وسوريا. هذا ما فعله رفاق الدرب في تيار رفيق الحريري أيضاً. لكنّ أحداً منهم لم يذهب إلى الهاوية برجليه ليتحدث عن “ربيع الرياض” ويكسر المحظور حين قال: “ما يقوم به النظام في السعودية تجاه المرأة إجرام ولا يمكن ان يستمر”.
كان ذلك في خريف 2011 علوش اليساري المستقبلي فعلها في مرحلة البراكين العربية الثائرة. ساواه فقط في التمرّد على “السائد” بالعلاقة مع السعودية نهاد المشنوق يوم وجّه لوماً في تشرين الأول 2011 للرياض لتلكؤها عن إعلان موقف “للتاريخ” من مشهد العنف الدامي في سوريا. وبعد ست سنوات خلال محنة استقالة سعد الحريري من المملكة العربية السعودية.
لم يتخلّف المحارب الشرس يوماً عن أداء واجب الالتزام، وأحياناً بخلاف قناعته، منذ انخراطه في صفوف “تيار المستقبل” عام 1998
هل نَدِم علوش على ما قاله يومذاك؟ “وهل سمعني أحد أقدّم إعتذاراً. أكثر من ذلك، لا علاقة تربط علوش بسفارة أو دولة في الخارج. وهو ليس من نادي “الواجبات الاجتماعية”. يعتبرها “عادات إقطاعية موروثة لتأكيد الولاء ولا تعني له شيئاً”.
ومن منطلق التزامه الحزبي رَسَم ملامح ثوابت لا مجال فيها لتسويات “مع نظام بشار الأسد المجرم الذي لا تنفع معه إلا لغة التهديد”، ومع “حزب الله” الذي سلّم باستحالة سحبه بعيداً عن سوريا أو التخفيف من “فارسيته”.
في كتابه بعنوان “حزب الله كما رأيته”، يقول علّوش أكثر مما قاله على المنابر، عن ولاية الفقيه وبداية التشيّع وأداء الحزب في الداخل والخارج.
هل يعني له شيئاً أنّ حزب الله لديه جمهوره وقاعدته؟ يجيب: “نعم. أيضاً أدولف هتلر كان لديه ملايين الأتباع من الألمان”. في موقفه هذا، لا يهادن ولا يصالح.
الُمقاتل الذي لا يتعب. الجرّاح الإنساني. اليساريّ المتصالح مع الرأسمالية، والمُعارض من داخلها. القيادي المقيم في الميدان، إلى جانب المحتاجين والفقراء، ولاعب الجودو الذي كلّما وقع، يعرف كيف ينهض ويكمل القتال.
هو مصطفى علّوش، المعارض الذي لا يتعب والمُقاتل الذي لا يستسلم.