توجّهان متناقضان يتحكّمان بخيارات الرئيس سعد الحريري. لا يريد المواجهة والتصعيد لكنه غير قادر على الاستمرار بدونهما. مردّ التناقض إلى ضياع في الخيار السياسي. والضياع مستمرّ بفعل عدم اتضاح الرؤية السياسية، التي قضت يوماً باستبعاد كلّ الصقور والمسيّسين والقادرين على مواكبة المرحلة السياسية، فوجد الحريري نفسه وحيداً مكتفياً بوحدته طالما أنّ التسوية تضمن بقاءه على رأس الحكومة.
ضاع هذا الرهان، فعاد لاحتضان “الحرس القديم”، لكنّه غير مقتنع بطروحاتهم السياسية. خياره واضح في أنّه لا يريد المواجهة مع حزب الله، بينما يعارضه بعض من عاد ليحضر اجتماعات كتلة المستقبل النيابية مجدّداً، لأنه يناور في طروحاته، فيحيل الأزمة كلها إلى “التيار الوطني الحرّ”، متناسياً “السلاح غير الشرعي” وما يتأتّى منه.
إقرأ أيضاً: عن “صديق مشترك” بين باسيل والحريري “نقّز” فرنجية
ضياع الوجهة حتّى الآن لم يدفع الحريري إلى تبنّي خيار البطريرك الماروني بشارة الراعي حول إعلان حياد لبنان. يوم الثلاثاء الماضي عقد اجتماع لرؤساء الحكومات السابقين، وكان هناك اقتراح حول تبنّي مبدأ الحياد، وتشكيل جبهة سنية تناصر الراعي وتسانده، لكن الحريري رفض. يرفض استفزاز حزب الله، على الرغم من اقتناعه بوجوب توحيد الجهود “السنية” لعدم الاستفراد بالسنة ومواقعهم وقراراتهم. أصبحت المراوحة سمة من سمات الحريري، والتي انطبعت في الذاكرة حديثاً ما بعد عودته إلى دردشاته الصحافية منذ أسابيع.
في دردشته الأولى، أطلق موقفاً ممتازاً سياسياً، بأنّه لن يسمح لأحد بالمساس بالسنّة ومواقعهم، وسيُسقط مخطّطات جبران باسيل المرتكز على قوة حزب الله. في دردشة الأسبوع التالي، خرج قائلاً:” إذا أرادوا أن يسجنوني فليفعلوا”.
حالياً يعمل الحريري على الإمساك بكلّ مفاصل التيار وقراراته. كما فعل سابقاً في ترشيحاته للانتخابات النيابية
تماماً كما هو حاله بالنسبة إلى مواقفه المتضاربة حول مسألة عودته لترؤس الحكومة، تارة يعلن أنّ رفضه للعودة قطعي ولا نقاش فيه، ولا يتأخر ليعتبر أنّ عودته ترتبط بشروط لم يتخلّ عنها. ما يعني أنه لا يزال يفكّر بالعودة لرئاسة الحكومة. إلى أن بلغه كلام واضح من رئيس الجمهورية ميشال عون بأنه لن يوقّع على أيّ مرسوم لحكومة يترأسها الحريري، إلا إذا حصل توافق جديد بينه وبين باسيل. وربما هذه الجملة وصلت إلى مسامع رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، فاندفع قائلاً إنّ الحريري بحال أراد العودة إلى رئاسة الحكومة، فسيبرم تفاهماً مع باسيل. طبعاً هدف فرنجية من استفزاز الحريري بهذا الموقف، هو استدراجه إلى خانة لم يتأخّر الحريري باللجوء إليها عندما نفى ذلك وتعهّد بعدم تكرار التسوية والتفاهم مع باسيل على الملأ.
أمامه استحقاقان أساسيان، لا يخلوان من التناقض. موعد المؤتمر العام للتيار، الذي أصبح مثالاً لحركة الحريري، تارة يرتكز إلى الحالة الشعبية بلا أساس تنظيمي، وطوراً يعيده حزباً بصلاحيات وتراتبية تنظيمية. وقد أعلن عن تأجيله بسبب “الكورونا”. فحالياً يعمل الحريري على الإمساك بكلّ مفاصل التيار وقراراته. كما فعل سابقاً في ترشيحاته للانتخابات النيابية.
يوحي الحريري من خلال المؤتمر العام للتيار، بأنّه يعمل على تحقيق خطوة نوعية في انتقال التيار إلى حقبة جديدة، لكنه علمياً هو غير قادر أو غير راغب بمحاسبة أحد او التخلّي عن أحد. فيجمع الكلّ في بوتقة واحدة من حوله. يستعيد كلّ صلاحيات التيار، ويضعها بين يديه. يلغي منصب الأمين العام، لكن لا يتخلى عن أحمد الحريري، إنما يعيّنه نائباً للرئيس للشؤون التنظيمية.
الاستحقاق الثاني الذي سيواجهه الحريري، هو استحقاق حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ولن يكون قادراً على عدم المواكبة
جزء من إنجاز هذه التوليفة الجديدة في التيار يؤكد أن لا شيء تغيّر. هو يريد تعيين مصطفى علوش أيضاً نائباً للرئيس، فينتفض جمال الجرّاح، مطالباً أيضاً بمنصب نائب للرئيس، فيكون له ما يريد، ولو في الاغتراب. الغريب أنه بالتزامن مع مطالبة الجرّاح بتعيينه نائباً للرئيس، كان يتمّ تسريب صوتي له يمتدح رئيس الجمهورية ميشال عون إلى حدّ التقديس والتأليه. كان ذلك في مناسبة زيارة عون إلى وزارة الاتصالات أيام كان يتولّاها الجرّاح. وبحسب مصادر عليمة في “التيار”، سُئِلَ عن تزامن تسريب التسجيل مع سعيه ليتعين نائباً للرئيس، فقال إنّ “التسريب لن يغيّر شيئاً، ولن يتمكّن الحريري من عدم تعييني”.
تلك الواقعة تعيد إلى الذاكرة واقعة تسريب صوتي للجرّاح نفسه أيام تشكيل حكومة الحريري السابقة، يقول فيه: “لا يمكن لسعد الحريري أن يستغني عنّي، وسيكون مجبراً على تعييني”. يقود ذلك إلى خلاصة واحدة، من يكون إلى جانب الحريري، إما بسبب الخجل أو مراعاة صلة القربى.
الاستحقاق الثاني الذي سيواجهه الحريري، هو استحقاق حكم المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ولن يكون قادراً على عدم المواكبة. يقول في محيطه إنه سيخرج بموقف عنيف، ولكن لا يريد أن يتسبّب الموقف بتصعيد المواجهة مع حزب الله. وهذه عيّنة أيضاً عن أن لا شيء تغيّر. فلا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.