ثلاثة تصاريح ترسم هاجساً لخطر محدق يحيط بمدينة طرابلس وأهلها.
التصريح الأول: لوزير الداخلية محمد فهمي الذي أكّد وجود تدخّل خارجي هدفه “اللعب بالأمن”، وأعلن أنّ طائرة خاصة وصلت من تركيا وعلى متنها 4 أتراك وسوريين بحوزتهم 4 ملايين دولار أميركي، أوقفوا بعدما دخلوا لبنان على أساس أنّ لديهم شركة صيرفة. وقال وزير الداخلية: “لا ندري هل هذه الأموال هي للتهريب والتلاعب بالدولار؟ أم لتغذية تحرّكات عنفية في الشارع؟ هذا إضافة إلى التعليمات التي تصل من تركيا عبر الواتساب لبعض أطراف الحراك الشعبي”.
إقرأ أيضاً: قلعة طرابلس تستعدّ لاستقبال أردوغان
التصريح الثاني: للقيادي في الجيش السوري الحرّ العميد مصطفى الشيخ. وقد حذّر أحد الإعلاميين اللبنانيين في اتصال هاتفي معه من أنّ “على اللبنانيين التنبّه في شهري 8 و 9 الآتيين من تحرّكات أمنية في طرابلس والشمال لمجموعات معارضة سورية تدعمها تركيا بالتعاون مع إحدى المرجعيات السياسية الطرابلسية”.
التصريح الثالث: جاء على لسان مرجعية شمالية لها باعها الطويل في العمل السياسي في جلسة خاصة، إذ قال: “كلّ الدول والأشخاص والأجهزة تحتاج لأشهر وربما لسنوات، لاحتلال طرابلس قهراً أو حبّاً، إلا تركيا وأردوغان. هم بحاجة لدقيقة واحدة، تبدأ من أن تقرّر تركيا أردوغان أن تحتلّ طرابلس، وتنتهي بتجاوب شعبي كاسح مع هذا القرار”. ويسترسل: “لقد تمكّن أردوغان، بفضل إعلامه وأدائه السياسي، من احتلال قلوب الطرابلسيين وعقولهم في رحلة البحث عن زعيم وقائد. وعندما يغيب الجميع تسهل المهمة أمام أردوغان”.
وفقاً لتقرير أمني استقصائي، فإنّ خارطة العمل التركي في لبنان، والشمال تحديداً، لا تعتمد على مسلك واحد، بل تتشعبٌ ضمن ثلاثة مسالك، وذلك لخدمة هدف واحد وهو إمساك تركيا بملف الشمال اللبناني.
المسلك الأول
تشرف على هذا المسلك الاستخبارات التركية المركزية. والعيون الأمنية في لبنان تتّجه إلى ثلاثة اطراف محلية تتواصل مباشرة مع الاستخبارات التركية وهي:
1- الوزير السابق اللواء أشرف ريفي.
2- جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية (الأحباش).
3- منتديات نبيل الحلبي (الموالية لبهاء الحريري).
اللواء ريفي كان له تواصل وتنسيق مع المخابرات التركية بشكل رسمي وفقاً لطبيعة عمله عندما كان على رأس المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ثم وزيراً للعدل. واستمرّ هذا التواصل والتنسيق بعد خروجه من وزارة العدل، مع توصية بحصر هذا التواصل مع جهاز الاستخبارات في أنقرة دون السفارة في بيروت، إلا أنّ هذا التواصل انقطع بعد خسارة اللواء ريفي في الانتخابات النيابية الأخيرة، رغم قيام أنصاره بمسيرات سيّارة متكرّرة تحمل العلم التركي، بعد فوز أردوغان بالانتخابات.
يقول ريفي لـ”أساس” إنّ “موضوع الوجود التركي في طرابلس وعلاقتي به عُرِض مرّات عدّة أمام المجلس الأعلى للدفاع، وحاولوا مراراً إيجاد أدلة على ذلك، لكن دون جدوى، علماً أنّه لا يوجد شخص ذكي يستطيع أن يخبّئ نفسه 100%”.
ويضيف ريفي: “من خلفيتي الأمنية أؤكد أنّ أيّ مشروع لدولة معيّنة في لبنان يفترض على الأمنيين أن يكتشفوه خلال 24 ساعة أو 48 ساعة على أبعد تقدير”.
ويؤكد ريفي أنّ هذه الاتهامات يتمّ تسويقها من قبل أطراف معيّنة “لإيهام البعض بأنّني أدير تحالفات الأتراك في طرابلس. وهذا أمر غير صحيح”.
أما المنتديات الشمالية، أو المعروفة بمنتديات نبيل الحلبي، ويشرف عليها نصر معماري الذي فُصِل من مستشفى الزهراء لنشاطه ما بين المنتديات وتركيا، فلم ينفِ لـ”أساس” هذه العلاقة: “هناك ربط خاطئ بين نشاطي في المنتديات وبين عملي في مستشفى الزهراء التي لا علاقة لها بتركيا لا من قريب ولا من بعيد. وقد استقلت منها قبل ثلاثة أشهر بعد أن خيّرتني الإدارة في المستشفى بين العمل فيها والعمل مع المنتدى”.
تبدو “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية – الأحباش”، الأكثر تكتّماً في هذا السياق مع رصد زيارة شبه شهرية منذ سنوات لقيادي بارز فيها إلى تركيا
ويضيف معماري: “من يتهمنا بالعلاقة مع تركيا، يستند على أنّ المحامي نبيل الحلبي عالق في تركيا بسبب إغلاق المطار”. انتهى حديث معماري. لكنّه أغفل أنّ الرحلات الجوية بين لبنان وتركيا استؤنفت ونبيل الحلبي لم يعد بعد.
“المنتديات” ناشطة اليوم على الخطّ التركي، وساهمت، بحسب التقارير الأمنية، في تنفيذ دورات وورش تدريبية لكوادر طرابلسية في إقليم هاتاي في تركيا بإشراف ناشطين في المعارضة السورية، على كيفية إدارة وتنظيم الاحتجاجات في الشوارع.
وقد شارك في هذه الورش التدريبية عدد كبير من أعضاء المنتديات في الشمال والبقاع على دفعات، وذلك قبل بداية الثورة في 17 تشرين، قبل أن تعود هذه الكوادر إلى طرابلس لتؤسس مجموعات عنقودية يتم تحريكها وفقاً للتوجهات، ويتمّ إيفادها في كثير من الأيام لتنفيذ احتجاجات أمام منازل بعض السياسيين، وأمام مؤسسات تجارية. ويُقدّر عدد المنتسبين إلى هذه المجموعات بأكثر من 200.
في المقابل، تبدو “جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية – الأحباش”، الأكثر تكتّماً في هذا السياق مع رصد زيارة شبه شهرية منذ سنوات لقيادي بارز فيها إلى تركيا، ودائماً من بوابة التصوّف وطريقتها النقشبندية. فـ”الأحباش”، المنقطعون عن التواصل مع الاستخبارات السورية، منذ أيام الوصاية السورية مثلهم مثل كثيرين من الأحزاب في تلك الفترة.
المسلك الثاني
يشرف عليه حزب العدالة والتنمية ونشاطه في بيروت محصور عبر قناة واحدة وهي “الجماعة الإسلامية”. بخاصّة أنّ ما يجمع الحزبين فكر “الإخوان المسلمون” في تركيا أو في لبنان. ويأتي هذا التنسيق في الشمال عبر مسلكين الأول تنظيمي ويقوده أ.ح.، والآخر تثقيفي ويشرف عليه الدكتور المتخصص في الدراسات العثمانية شفيق طالب الذي قاد الحملة التركية بوجه الادعاءات الأرمنية في لبنان عبر سلسلة محاضرات في بيروت والشمال. ويتمّ التنسيق بين “الجماعة” و”الحزب” من خلال زيارات دورية إلى تركيا ومن خلال وجود الكثير من رجال الأعمال الذين يدورون في فلك “الجماعة الإسلامية”، ويطوّرون أعمالاً تجارية في تركيا وتحديداً في إقليم هاتاي.
تشير المصادر الأمنية إلى أنّ ميزانية خاصة تُرصد شهرياً عبر هذا المسلك يُخصّص منها جزء لدورات المهارة في التفكير وذلك عبر مركزين للتدريب تم إنشاؤهما قبل سنتين. الأوّل في بيروت، داخل منطقة كورنيش المزرعة، والثاني في طرابلس. وقد استضاف المركزان عدداً من المتدرّبين غير اللبنانيين قبل انطلاقة ثورة 17 تشرين.
المسلك الثالث
تشرف على هذا المسلك السفارة التركية في بيروت مباشرة ويتوزّع نشاطها على ثلاثة فروع: أوّلها الجمعيات اللبنانية السياسية والأهلية، ومفاتيحها بحسب التقارير هي الدكتور ص. غ. الذي كان يشغل منصب مدير المؤسسات الطبية في مؤسسات “العزم” التابعة للرئيس نجيب ميقاتي، وتمّ الاستغناء عن خدماته في المرحلة السابقة. وهو الآن مقيم في تركيا حيث افتتح مطعماً هناك. وتشير المعلومات الاستقصائية إلى أنّ غ. لا يزال في تواصل دائم مع عدد من الجمعيات في طرابلس، مقدّماً لها الدعم عبر شقيقه ع.غ.، وذلك عبر مؤسستين الأولى “jiz” الألمانية التي يشرف عليها أتراك، والثانية “NGO” (اتحاد الجمعيات الأهلية).
مصدر متابع للحراك التركي في طرابلس يدعو إلى التوقف عند الاستغناء بشكل متوازٍ عن كلٍ من ص.غ. في “العزم”، ور.م في “تيار المستقبل” ونصر معماري في “مستشفى الزهراء”
مصدر أمني كشف لـ”أساس” أنّ غ.، ورغم الاستغناء الشكلي عن خدماته من قبل تيار “العزم”، إلا أنّه لا يزال على ارتباط بهذا التيار. وأنّ الاستغناء عنه أتى بمثابة “تفريغ” له للإشراف بدوام كامل على ملف العلاقة بين “تيار العزم” وبين تركيا.
مصدر في “تيار العزم”، ورغم إعلان التيار الاستغناء عن خدمات غ.، يصفه بـ”الرجل الآدمي” ويقول: “تيار العزم على علاقة جيدة مع كلّ الجمعيات الأهلية والاجتماعية والثقافية في طرابلس بما فيها بعض الجمعيات ذات الطابع التركي ولا نستحي بذلك”.
بل ويدافع المصدر “العزمي” عن علاقة غ. بتركيا: “تربطه بها جذوره، كونه يحمل الجنسيتين، المصرية لجهة والدته، والتركية لجهة والده اللبناني، ذي الأصول التركية، لا أكثر ولا أقلّ”. إذا هو تركي، وعلناً، وهذا “دوره” في “العزم”.
أما الفرع الثاني، فيأتي عبر الدكتور ر.م.، المتأهل من امرأة تركية لها نشاطها وفعاليتها داخل مؤسسات الحكومة التركية. وهو منسّق الدعم التركي بين السفارة وبين الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري، عبر “مؤسسة الحريري للتنمية المستدامة”، الذي تم أيضاً التخلي عن خدماته، في الشكل، دون المضمون، مع تدهور العلاقات التركية – الخليجية.
مصدر متابع للحراك التركي في طرابلس يدعو إلى التوقف عند الاستغناء بشكل متوازٍ عن كلٍّ من ص.غ. في “العزم”، ور.م. في “تيار المستقبل” ونصر معماري في “مستشفى الزهراء”. وكأنّه تفريغ غير معلن للشخصيات الثلاث من قبل الجهات الثلاث لإدارة “الملفّ التركي”.
أما الفرع الثالث من المسلك الثالث، فيتجلى ببلدية طرابلس و”حرّاس المدينة”، اللتين تتلقيان الدعم التركي، بحسب الخارطة الأمنية، عبر الدكتور جمال بدوي، عضو مجلس بلدية طرابلس السابق، والمرشح على لوائح المجتمع المدني في الانتخابات النيابية الأخيرة، التي باتت تضم ما يفوق عن 500 شخص .
محمد شوك مسؤول ومؤسس “حرّاس المدينة”، لا ينفي التعاون مع ح. ونصر معماري ويؤكد لـ”أساس” أنّه “أثناء الثورة تعاون حراس المدينة مع أ.ح. ونصر معماري قبل أن نعرف أنّهما مسؤولان عن المنتدى في طرابلس، تحت عنوان طرابلس تنتفض، وكان تعاوناً رائعاً، لكن عندما انتقلا إلى المنتدى الذي لا يملك مشروعاً واضحاً لنبيل الحلبي أو بهاء الحريري وغيرهما، أخبرناهما أنّنا لا نستطيع أن نضع يدنا بيدهم أو أن نجتمع معهم على طاولة واحدة مجدداً”.
بدورها، تنفي مصادر بلدية طرابلس أيّ نشاط اجتماعي “مشبوه” للجمعيات التركية. وهذا ما تقوله بحكم كونها إدارة رسمية. وتؤكد المصادر أنّ وكالة السفارة التركية “تيكا” مثل غيرها من الوكالات الأجنبية في لبنان، كالفرنسية والألمانية والإسبانية… “تقوم بتنفيذ مشاريع مشتركة مع الدولة اللبنانية. وقامت بتوزيع حصص في شهر رمضان عن طريق البلدية، كغيرها من السفارات التي وجهت لهم البلدية رسالة لدعم أهالي طرابلس اجتماعياً”. وأنّ “البلدية لديها شراكات وتحديداً ثقافية مع وكالة السفارة التركية كغيرها من السفارات لترميم الآثار في المدينة”.
الفرع الثالث يتحدث عن الجمعيات التركمانية في لبنان، التي يتمّ التنسيق بينها وبين السفارة عبر المرشّحة أيضاً في الانتخابات النيابية الماضية غولاي الأسعد، ابنة بلدة الكواشرة العكارية، وابنة العسكري المتقاعد خالد الأسعد، الذي كان المنسّق الأول للعلاقات التركمانية التركية بعد سقوط السلطنة العثمانية في لبنان، منذ العام 1997.
الجمعيات التركية في لبنان تنضوي تحت مسمى “تجمّع الجمعيات اللبنانية التركية”، وذلك بعد طلب وتوصية من السفارة التركية في بيروت إثر تخصيص ميزانية كبيرة موحّدة لها ترصدها الحكومة التركية وتنقسم إلى قسمين: الجزء الأوّل منها نقدي (لزوم تغطية مصاريف مراكز ونشاطات ورواتب المتفرّغين في هذه الجمعيات) وجزء آخر مخصّص لمنح جامعية تقدّم لأبناء القرى العكارية التركمانية. وتغطي هذه المنح تكاليف الدراسة والاقامة وتأمين مصروف شهري للطالب في تركيا.
التجمّع يضم:
– الجمعية الثقافية اللبنانية التركية في عيدمون، التي تأسست عام 2010، ويرأسها كمال مقصود، وهي تهتمّ باللبنانيين التركمان في عيدمون كما تعتبر من الجمعيات الرائدة في تقديم المنح الجامعية للدراسة في تركيا.
– الجمعية التركمانية اللبنانية، وقد تأسست عام 2012، ويرأسها أحمد التركماني، وتقدّم الرعاية والمساعدات العينية لما يقارب 25 ألف نسمة في قرى عكار ومدينة طرابلس.
– جمعية الأخوة اللبنانية التركية، وهي تأسست عام 2012 في بلدة الكواشرة.
– جمعية إنماء حوارة التركمانية، التي تأسست عام 2015 في مجدليا قضاء زغرتا ويرأسها محمد تركماني.
– جمعية دوراس الخيرية الاجتماعية في بعلبك، وقد تأسست عام 2006، ويمثّلها تجاه الحكومة اللبنانية علي إبراهيم غرلي.
– وتبقى الجمعية الرئيسية في طرابلس هي “جمعية الصداقة اللبنانية التركية طرابلس الحريشة”، التي تأسست عام 2008 ويرأسها الدكتور خالد تدمري، ويتركز عملها مع مؤسسة “تيكا” التركية.
رئيس الجمعية التركمانية اللبنانية أحمد تركماني لا ينفي حصول الجمعية على دعم مالي من السفارة التركية، بل يختصر هذه المساعدات بأنّها “تربوية”، وتحديداً عبر منح دراسية في جامعات تركية، إلا أنه برفض الحديث عن دعم مالي مباشر.
في الخلاصة: تركيا في طرابلس ليست مجرّد إشاعة ولا ملف ملفّقاً لمدينة اعتادت على تلفيق الملفات بحقها، بل هو واقع يعبّر عن بيئة يبدو أنّ الغياب العربي دفعها إلى الوقوع في حبّ الأتراك.
يبقى السؤال عن هدف هذا التمدّد التركي، إن تحت عناوين اجتماعية، أو تحت عناوين تربوية. وما قاله وزير الداخلية محمد فهمي عن سبب إحضار كلّ تلك الملايين من الدولارات، جوّاً من مطار أتاتورك في اسطنبول إلى مطار رفيق الحريري في بيروت.