حمل نيل ارمسترونغ معه الى القمر اسوارة وتركها فوق. حينما وطأت قدماه “أرض” القمر لم يكن يفكر وحسب بلازمة “خطوة صغيرة لانسان، وثبة عملاقة للإنسانية”. بل كان يفكر أيضاً بالإسوارة. كان يحملها في يده ويضغط عليها بكفه وأصابعه كي لا تفلت منه. هناك، بعدما تقدّم خطوات بعيداً عن مركبته الفضائية، وقف وتأمل الإسوارة التي تحمل اسم ابنته كارين، ثم أفلتها بين صخور القمر. تركها هناك وعاد إلى الأرض، حيث ترقد كارين في قبرها الصغير بعدما توفيت بسرطان الدماغ ولم يتجاوز عمرها السنتين.
إقرأ أيضاً: عنف.. تعذيب وذبح في أغاني الأطفال!
“اول رجل”(انتاج عام 2018- إخراج داميان تشازل- تعرضه شبكة “نيتفلكس”) يقدم لنا هذه المقاربة الانسانية لرحلة ارمسترونغ الى القمر. الفيلم يضعنا في مقاربة مختلفة لدوافع الرجل الذي دخل التاريخ على انه اول انسان تطأ قدمه سطح القمر. يذهب بنا الفيلم الى قمر آخر يتطلع اليه نيل(يلعب دوره رايان غوسلينغ): قمر ابنته الصغيرة التي يفتقدها ويكاد يتمزق حزناً عليها. يرينا الفيلم كيف ان موت هذه الابنة في عمر صغير خيم على تفكير المهندس الشاب الذي قاتل بكل ما يملك من وسائل من اجل انجاح ما كان يطلب منه كرجل فضاء. واذا كان الصعود الى القمر قد آل الى ارمسترونغ بعد عوامل عدة من بينها الصدف، الا ان القمر الذي طمح نيل دائماً لبلوغه يتمثل في الصعود الى ابنته فوق، هناك حيث تتراءى له في السماء، وحيث يتذكرها وهي تشير إلى القمر من شرفة المنزل مع ضحكة تشقّ قلب الليل.
البحث حول دقة هذا التفصيل الذي بني عليه السياق الدرامي للفيلم لا يقود الى حسم. فقَدَ نيل ارمسترونغ ابنته بسرطان الرأس، هذه حقيقة دامغة. حمل معه شيئاً شخصيا معه الى القمر وتركه هناك، هذه ايضا معلومة يقال انها دقيقة. لكن ما كان هذا الشيء؟ هل هو فعلاً اسوارة عليها احرف اسم ابنته “ك ا ر ي ن”؟ هذا ما لا يستطيع احد التأكد منه. لم يفصح ارمسترونغ، الذي غرق في الصمت بعد عودته من القمر، عن تفاصيل كثيرة. عاد رائد الفضاء من القمر ودخل التاريخ من دون ان يمر في الأضواء ولا ان يتبختر طويلاً على سجاد إنجازه الأحمر. من القمر الى البيت، وهناك لم تنفع معه كل الإغراءات لدفعه الى الضوء، ولا حتى محاولات الحزبين الجمهوري والديمقراطي لترشيحه لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية. كان مقلّاً جداً في الظهور الاعلامي وبالكاد تفلت منه إجابات مقتضبة على اسئلة الصحافيين اذا حدث وخرج الى الأضواء في الاحتفال السنوي لذكرى الهبوط على سطح القمر. لاذ بالصمت والعتمة كما لو كان الجانب المظلم من القمر حينما يكون هلالاً في بدايات تكوّنه. وشكّلت هذه العزلة لغزاً لدى متتبعي أخباره وأخبار الفضاء وحيك حولها عشرات الاشاعات والسيناريوهات. لكن فيلم “اول رجل”، وان كان ينتهي بانتهاء مغامرة “ابولو 11” بنجاح وعودة ارمسترونغ الى الارض والى ابنيه وزوجته، يفتح لنا باباً لتفسير منطقي لانزواء ارمسترونغ وابتعاده عن الاضواء، وهو يصوره لنا في الفيلم قبل الرحلة شخصية شديدة الايجاز ومقلّة في الكلام، وكثير التفكير يسرح بعيداً وغالبا يفكر بحزن في ابنته الميتة.
عاد رائد الفضاء من القمر ودخل التاريخ من دون ان يمر في الأضواء ولا ان يتبختر طويلاً على سجاد إنجازه الأحمر
هذا يذكّر بأثر الموت، موت الأطفال على الأهل، كما يصفه الشاعر الأميركي أرتشي راندولف أمونز: “كان ذلك عندما توفي أخي الذي يصغرني بسنتين ونصف، ولم يكن قد تجاوز السنة ونصف السنة… وجَدَت أمي بعد يومين من موته آثار قدميه في الباحة، وحاولتْ بناء شيء حولها لتقيها هبوب الريح. تلك هي الصورة الشعرية الأقوى التي عرفتها”.
لقد بقي نيل ارمسترونغ طوال حياته يحاول ان يُبقي على أثر ابنته وابتسامتها، وترك لها هناك، بين صخور القمر، اسماً يشعّ وينعكس في كل ليلة مقمرة على اسمها المحفور على رخام قبرها الذي يشعّ هنا، بين صخور الأرض.