منذ أن وصلت السفيرة الأميركية دوروثي ك. شيا إلى لبنان قبل أشهر، اعتمدت دبلوماسية التحرّك والحيوية والحضور المكثّف على الصعيد الإعلامي، وأصبح اسمها متداولاً بقوّة بين اللبنانيين، سواء الذين يحبونها أو أولئك الذين يكرهونها. فالدبلوماسية الآتية من تجربة عمرها ثمانية وعشرون عاماً في العمل الدبلوماسي، والتي تتقن اللغتين العربية والفرنسية، دخلت إلى لبنان من الباب الواسع سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً.
إقرأ أيضاً: السفيرة الأميركية في مواجهة حزب الله: صراع على مستقبل لبنان
في الأيام الأولى لوصولها تمّ إطلاق العميل الإسرائيلي، اللبناني الأصل والأميركي الجنسية، عامر فاخوري، بقرار من المحكمة العسكرية. وجرى تسفيره فوراً إلى خارج لبنان رغم صدور قرار قضائي بإعادة محاكمته. وتحوّلت هذه القضية إلى إحدى أكثر القضايا إثارة وتداولاً في الأوساط اللبنانية. ولم تحسم تفاصيلها حتى اليوم. ومع أنّ السفيرة الجديدة لم تكن هي من تولّى متابعة القضية للوصول إلى نتائجها العملية، فإنّ تزامن وصولها مع إطلاق الفاخوري جعلها تقطف ثمرة تلك الجهود التي بذلت على مدار أشهر وأسابيع طويلة.
وتابعت شيا نشاطاتها في كافة الاتجاهات تحت عنوان: “إعادة تفعيل الدور الأميركي في لبنان في مواجهة التحدّيات المختلفة وخصوصاً في وجه إيران وحزب الله”. وأُضيف إلى ذلك لاحقاً “دور روسيا والصين”. وقد أعطت في البداية فرصة سماح لحكومة الرئيس الدكتور حسان دياب ولم تعمل لمواجهتها مباشرة بهدف السماح لها بتحقيق بعض الإنجازات العملية، ولا سيما حماية القطاع المالي والمصرفي.
كان القرار بمنع وسائل الاعلام من تداول تصريحاتها ومواقفها، عنواناً جديداً لمعركة قضائية وسياسية ودبلوماسية
كانت المعركة الثانية التي خاضتها من خلال وضعها بعض الفيتوات على التعيينات المالية. وقد نجحت بداية في تأخير هذه التعيينات. وهي لم تخفِ تدخّلها المباشر وذلك عبر مواقف وتصريحات علنية لها ولطاقم السفارة. لكن هذه المعركة لم تحقّق النجاح المطلوب بعد أن حصلت التعيينات مؤخراً دون أن تأخذ الحكومة برأي السفيرة شيا، ما أغضبها ودفعها لشنّ حملة قاسية على الحكومة ورئيسها ودعوتها الصريحة لاستقالة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة دون حزب الله وحلفائه. وذلك بعد “تطيير” محمد بعاصيري من نيابة حاكم مصرف لبنان.
أما المعركة الثالثة التي تزامنت مع وجود السفيرة شيا، فهي معركة تطبيق قانون قيصر، الذي يفرض عقوبات قاسية على المتعاملين مع الحكومة السورية ومؤسساتها. ورغم أنّ شيا لم تكن من عداد الذين عملوا على إعداد القانون وتطبيقه، إلا أنّ وجودها في لبنان خلال هذه المرحلة يجعلها تتحمّل مسؤولية متابعته وتطبيقه. وبالمقابل، فإنّ المعارضين للقانون بدأوا العمل لمواجهته من خلال الدعوة لتعزيز العلاقات مع سوريا والانفتاح على الشرق، ما حوّل لبنان إلى ساحة معركة قاسية بين الدبلوماسية الأميركية ومعارضيها.
إلى جانب الحضور الإعلامي والدبلوماسي القوي للسفيرة شيا، كانت المعركة الرابعة التي خاضتها مؤخراً في مواجهة قرار القاضي محمد علي مازح ردّاً على بعض تصريحاتها الداعية لمواجهة حزب الله وحكومة الرئيس حسان دياب. فكان القرار بمنع وسائل الإعلام من تداول تصريحاتها ومواقفها، عنواناً جديداً لمعركة قضائية وسياسية ودبلوماسية. ومع أنّها نجحت في الحصول على اعتذار “شبه رسمي” من المسؤولين اللبنانيين، إلا أنّها في المقابل اضطرت إلى التراجع عن بعض مواقفها في مواجهة الحكومة والعمل لإسقاطها، وعادت إلى التعامل معها بشكل عملي ودبلوماسي، بالتزامن مع زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي إلى لبنان وإعادة تفعيل المفاوضات حول ملفّ ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان والعدو الصهيوني.
شكّل إطلاق سراح رجل الأعمال قاسم تاج الدين، الذي كان معتقلاً في أميركا بتهمة تقديم الدعم لحزب الله، فرصة جديدة لتخفيف التوترات أو فتح باب حوار جديد بين الأميركيين والإيرانيين
ورغم تصعيد العقوبات الأميركية على لبنان ومسؤوليه ومؤسساته، حاولت السفيرة شيا تأمين دعم مالي للجامعة الأميركية في بيروت وللجامعة اللبنانية – الأميركية، وبعض المؤسسات الأميركية العاملة في لبنان، على الصعيد الإغاثي والإنساني والتربوي. وكلّ ذلك بهدف منع سقوط لبنان وانهياره، وزيادة دور ونفوذ حزب الله وإيران أو تفعيل الدور الروسي والصيني.
وقد شكّل إطلاق سراح رجل الأعمال قاسم تاج الدين، الذي كان معتقلاً في أميركا بتهمة تقديم الدعم لحزب الله، فرصة جديدة لتخفيف التوترات أو فتح باب حوار جديد بين الأميركيين والإيرانيين، ما قد يخفّف بعض التوتر بين الأميركيين وحزب الله في لبنان. لكنّ ذلك لا يلغي حجم الصراع والمعارك التي تخوضها وستخوضها السفيرة شيا على الأراضي اللبنانية.
التظاهرات الأخيرة، احتجاجاً على زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي قرب مطار رفيق الحريري الدولي، وكذلك على مدخل السفارة في عوكر، والشعارات التي رفعت، وإعادة استحضار دور الحاج عماد مغنية في الصراع مع الأميركيين، كلّ ذلك شكّل إشارات واضحة حول حجم الصراع الذي قد يحصل في الفترة المقبلة على الأراضي اللبنانية، وطبيعته، خصوصاَ مع إعلان المحكمة الدولية عن تحديد السابع من آب المقبل موعداً لإعلان الحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
فما هي طبيعة المعركة المقبلة التي ستخوضها السفيرة شيا في الأسابيع المقبلة؟ وإلى أين سيتجه لبنان في خضم الصراعات الداخلية والخارجية؟ وهل سنستعيد مرحلة الثمانينات من القرن العشرين أو السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين؟
بغضّ النظر عن أفق الأوضاع ونتائج المعارك التي خاضتها وستخوضها السفيرة شيا، فإنّها نجحت في أن تصير الدبلوماسية الأولى في لبنان اليوم. والمهمّ أخيراً: كيف ستكون خاتمة المعارك التي ستخوضها؟