في غرفتي، في الفندق، آخر الليل، أنتظر التيار الكهربائي ليعود، بينما أكتب هذه السطور وعيني على بطارية اللابتوب. أرجو أن لا تخذلني قبل إنهاء ما أريده قوله. فأنا أقطن في هذا الفندق منذ مدة طويلة، وأدفع شهرياً ما يعادل مليون ومئتي ألف ليرة بدل إيجار، يضاف إليه فاتورة الكهرباء الموزّعة بين كهرباء رسمية وكهرباء مولّد، وتبلغ ما يقارب ثلاثمئة ألف ليرة شهرياً. ثم هناك خدمة التلفون والإنترنت (المقطوع حالياً بسبب انقطاع الكهرباء)، وهذه موزّعة أيضاً بين فاتورة رسمية (شركة الهاتف) وفاتورة إنترنت من موزّع الإنترنت والكايبل، وتتجاوز كلفتهما معاً المئة وخمسين ألف ليرة، أدفع سلّة من الضرائب لإدارة الفندق، تقول إنها تخصّصها للصيانة مع أن الترهّل والاهتراء لا يوفّران ركناً من المكان الذي يفقد مع الوقت حتى هيئة الفندق، ويتحوّل شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه الزريبة. لكنه الوحيد المتاح لأمثالي. فهو يؤمّن لي ولعائلتي في الحدّ الأدنى منامة، ولدينا برّاد يعمل جاهداً لإبقاء الطعام صالحاً في ساعات خدمته عندما تشاء له الظروف أن ينال قسطاً وافراً من الكهرباء.
إدارة الفندق تقدّم منذ سنوات تبريرات لتراجع الخدمة، وكلّ مراجعاتنا لها كانت تنتهي بإجابات قاسية: “إذا لم تعجبك الخدمة، يمكنك الرحيل إلى فنادق أخرى”
أعيش في هذا الفندق منذ سنوات طويلة، تزيد على عشرة، وأنا “زبون” صالح، لم أتأخّر يوماً عن دفع ما يترتّب عليّ، لأنني أخشى أن أُرمى خارج الفندق على قارعة الطريق، كما حدث مع كثيرين غيري أراهم من النافذة يفترشون الأرصفة القريبة. نعمل منذ سنوات طويلة، زوجتي وأنا، لتأمين حدّ أدنى من الحياة الكريمة داخل هذا الفندق، ولا أطلب الكثير. أحلامي، مثل معظم النزلاء، بسيطة. أقصاها يتمحور في النوم لساعات قليلة من دون كوابيس. والنوم في هذا الفندق قد يعزّ في الصيف مع انقطاع الكهرباء، كما هي الحال الآن. نستيقظ مع غيرنا من النزلاء، ونضيء غرفنا بالشموع أو بما تيسّر من إضاءة بالطاقة التي تعمل بالبطاريات أو التشريج، وننتظر الفرج. والفرج يتمثّل في عودة الكهرباء وتشغيل التكييف أو المراوح لنحارب الحرّ والرطوبة لنستطيع النوم مع أطفالنا.
إقرأ أيضاً: فوطة صحية داخل كيس أسود في “دكان” مفلس!
إدارة الفندق تقدّم منذ سنوات تبريرات لتراجع الخدمة، وكلّ مراجعاتنا لها كانت تنتهي بإجابات قاسية: “إذا لم تعجبك الخدمة، يمكنك الرحيل إلى فنادق أخرى”. والرحيل ليس سهلاً على معظمنا. فغالبيتنا لا يمتلك هذا الترف. ومعظمنا اعتاد على الحياة في هذا الفندق، على علاّته. وهناك شيء خفيّ يربطنا به على الرغم من تدهور حالته وترهّل بنيانه وتراجع خدمته. نحاول، كلنا، أن نبقى في غرفنا، ونقول إن الحال لا بدّ ستتحسّن. بعضنا لم يستطع الصمود، فغادر مرغماً إلى فنادق أخرى بعيدة، وحينما تركوا “الريسبشن” شاهدنا دموعهم. لوّحوا لنا والماء المالح يترقرق في عيونهم. بعضهم لم يستطع حتى التلفّظ ولو بكلمة. دفعوا الحساب كاملاً، وخرجوا. ولم يلتفتوا إلى الخلف، ربّما لكي لا نرى الأسى في عيونهم، أو ربّما لكي لا يروا الأسى في عيوننا. رحلوا وموظّفو الإدارة في الفندق كانوا يتهامسون بشيء من النميمة: “ناكرون للجميل”. يفعلون ذلك في كلّ مرة يغادر أحد النزلاء الفندق، يقولون إن المغادرة بسبب تراجع الخدمة وتخلخل المبنى فيه شيء من الخيانة. ولو؟ أنتم زبائن دائمون. وحينما يمرّ الفندق بأوضاع صعبة كالتي يمرّ بها حالياً تغادرون؟ تتركونه لمجرّد غياب الكهرباء والماء والإنترنت؟ يحمّلون الراحلين منا مسؤولية تدهور أحوال الفندق، مع أنّ أحداً من النزلاء الذين غادروا، لم يقصّر في دفع كلّ ما يتوجّب عليه للإدارة. حتى إنّ الإدارة لا تسمح لأحد بمغادرة الفندق من دون دفع كلّ ما يترتّب عليه. ومع ذلك، يهمس الموظّفون بكلام قاسٍ بحقّ كلّ من يغادر.
بطارية اللابتوب تتناقص. ولدي الكثير لأقوله. دعوني أسرع، فأخبركم عن خطتي للرحيل. نعم، أنا أخطّط للهرب من هذا الفندق
أحد النزلاء منذ فترة ليست ببعيدة، رمى بنفسه من شبّاك غرفته في الطابق العاشر. سقط مضرّجاً بدمه مع رسالة خصّ فيها أصحاب الفندق وموظّفيه. كانت تتلخّص بشيء واحد: دلّهم إلى مكان خبّأ فيه آخر دفعة مستحقّة عليه للفندق. لم يقبل وهو يغادر الفندق والحياة معاً إلا أن يسدّد كلّ ما عليه، مع أنه لم ينل في مقابله شيئاً من الخدمات التي يدفع ثمنها. أيضاً تهامس الموظّفون أنّ هذا النزيل ناكر للجميل. مع أنه وضع في وصيته بقشيشاً لعامل النظافة كي يمسح دمه عن الأرض.
نزيل آخر جنّ جنونه في ليلة بلا كهرباء، وراح يصرخ في غرفته محرّضاً باقي النزلاء على الإدارة. أرسلوا له الأمن وأوسعوه ضرباً. ثم رموه في غرفة تخصّصها الإدارة للمتمرّدين من النزلاء، الذين لا يريدون الرحيل، ولا يقبلون بالبقاء في هذه الظروف. لا أخفيكم، أنني وباقي النزلاء نخاف من هذا المصير. لذا فإنّ معظمنا، إما يبقى في غرفته صامتاً، وإما يرحل تاركاً خلفه همسات تتهمه بالخيانة ونكران الجميل، وإما يرمي بنفسه من شبّاك غرفته. إحدى النزيلات في الطبقة الأولى حظّها سيء جداً. رمت بنفسها من شبّاك غرفتها، فلم تمت بسبب قلّة الارتفاع. نسمع أنين أوجاعها إلى الطبقة الرابعة حيث نعيش. كلّ ليلة يتسلّق الجدران محاولاً، بلا جدوى، الوصول إلى السماء.
بطارية اللابتوب تتناقص. ولدي الكثير لأقوله. دعوني أسرع، فأخبركم عن خطتي للرحيل. نعم، أنا أخطّط للهرب من هذا الفندق…
انتظروا لحظة. سأعود. هناك من يطرق الباب بقوة. سأعود. البطارية في آخرها…
إنهم من “خدمة الغرف”. قالوا بلهجة صارمة: “الوطن ليس فندقاً تغادره عندما تسوء الخدمة” وانصرفوا. بدوا غاضبين. لا أعرف ماذا أفعل. البطارية في آخرها. عليّ أن أنهي المقالة. أرسلها للنشر حينما تعود الكهرباء ويعود الإنترنت. سأقفل اللابتوب الآن، وأنصت في العتمة إلى أنين النزيلة في الطابق الأول، وأتذكّر وأنا أنظر إلى نجمة تلمع في السماء البعيدة، النزيل الذي انتحر من الطبقة العاشرة. وحينما أغمض عينيّ أراني أغادر “الريسبشن” من دون أن أنظر إلى الخلف، وعيوني تغرورق بالدموع، والموظّفون يهمسون: “ناكر للجميل”!