جلّ اهتمام جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ استلام منصبه في نيسان عام 2018، وحتّى خروجه منه في أيلول 2019، كان الضغط على النظام الإيراني في كلّ مكان وفي كلّ مجال. فإيران هي العدو بالنسبة إليه، والاتفاق النووي معها كان التركة الثقيلة الموروثة من عهد الرئيس السابق باراك أوباما. ذاك الذي اعتبر الاتفاق تاج إنجازاته في السياسة الخارجية. كما أنّ قانون الرعاية الصحية (المعروف إعلامياً بـ Obamacare) هو الموازي له في سياساته الداخلية. هذا ما يبدو جلّياً في زوايا كتابه الأخير “الغرفة التي شهدت الأحداث”.
إقرأ أيضاً: كتاب بولتون: لبنان غير موجود.. والحزب إيراني فقط
لقد تمكّن بولتون بعد شهر من تسلّمه المنصب من إقناع ترامب بالخروج من الاتفاق النووي، ما أدّى إلى تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران حتّى اللحظة، وكانت الذروة في اغتيال الجنرال قاسم سليماني قرب مطار بغداد في 3 كانون الثاني مطلع هذا العام، أي بعد أشهر قليلة من استغناء ترامب عن خدمات بولتون الذي بذل جهداً متواصلاً للتأثير في ترامب كي لا يتخذ قرارات تريح إيران في المنطقة، سواء في العراق أو سوريا، تحت ذريعة توفير النفقات العسكرية، أو عدم خوض الحروب من أجل الآخرين.
واعتبر بولتون في كتابه، أن أكبر المشكلات الملموسة التي كانت الإدارة الأميركية تواجهها عند تسلّمه منصبه، هو إيران، ولا سيما الاتفاق النووي المبرم معها عام 2015. وبرأيه، أن هذا الاتفاق، أسيء تصوّره، وجرى التفاوض حوله بطريقة مشينة، كما صيغ بالطريقة نفسها. وكان بكامله، خدمة خالصة لإيران. فالاتفاق غير قابل لفرض تنفيذه على إيران، وغير قابل للتحقّق من تنفيذه عملياً، وهو غير ملائم في مدته الزمنية ولا في نطاقه. وعلى الرغم من أن الهدف المزعوم للاتفاق، هو معالجة التهديد الذي يمثّله برنامج الأسلحة النووية في إيران، إلا أنّ الاتفاق بنظر بولتون لم يفعل شيئاً في هذا الإطار. بل يرى بولتون أنّ الاتفاق فاقم من هذا التهديد بدل العكس، من خلال اختراع ما يشبه الحلّ، وأشاح الأنظار عن المخاطر، ورفع العقوبات الاقتصادية التي كانت تصيب الاقتصاد الإيراني بوجع ملموس. وفي أثناء ذلك سمح لطهران بمتابعة مسارها كالمعتاد دون عوائق.
تمكّن بولتون بعد شهر من تسلّمه المنصب من إقناع ترامب بالخروج من الاتفاق النووي، ما أدّى إلى تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران
وأكثر من هذا، لم يعالج الاتفاق على نحوٍ جدّي التهديدات الإيرانية الأخرى، مثل برنامج الصواريخ الباليستية الذي هو قيد التطوير (وهو جهد يكاد يكون مكشوفاً لتطوير وسائط إيصال الأسلحة النووية)، وكذلك استمرار إيران في دورها كمصرف مركزي عالمي للإرهاب الدولي، ونشاطها الخبيث الآخر في المنطقة، من خلال تدخل فيلق القدس وتصاعد قوته، في العراق، وفي سوريا، وفي لبنان واليمن، وفي أماكن أخرى. وهو الذراع العسكري الخارجي التابع للحرس الثوري الإيراني.
يشرح بولتون أنّ تحرير إيران من العقوبات بفضل الاتفاق النووي، أفاد إيران فوراً، بتحويل 150 مليون دولار عبر منصات مصفوفة في طائرات شحن، وتحرير الحسابات المصرفية المجمّدة، والتي تقدّر بـ 150 مليار دولار حول العالم. وهكذا، “عاد نظام آيات الله إلى العمل” بحسب تعبير بولتون.
وكان بولتون انتقد موقف إدارة أوباما “المتخاذل” أمام سحق النظام الإيراني للتظاهرات الشعبية المطالبة بالديموقراطية في إيران عام 2009. إذ لم تفعل الولايات المتحدة شيئاً بإزاء ذلك، وبولتون من مؤيدي التدخل في الدول المارقة. ولاحقاً، صارع بولتون داخل مجلس الأمن القومي ومع ترامب ووزرائه ومستشاريه، كي لا تسحب أميركا قواتها العسكرية الباقية في سوريا، سواء في الشرق والشمال حيث تسيطر الميليشيات الكردية المتهمة بولائها لحزب العمال الكردستاني أو في منطقة التنف القائمة في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن. فالانسحاب من المنطقة الأولى يعرّض الأكراد للخطر التركي فيدفعهم إلى حضن النظام السوري وإلى إيران، فضلاً عن أنّ الولايات المتحدة دعمت زمناً طويلاً إقامة دولة كردية مستقلة عن العراق أو حصول الأكراد على استقلالية أكبر. لكنّ إقامة دولة كردية يفترض تعديل حدود الدول المجاورة، وهذا أمر معقّد. والأكثر تعقيداً بالنسبة لبولتون، هو شعور الولاء للأكراد الذين قاتلوا داعش مع الأميركيين، والتخلّي عنهم اعتبره إشارة سيئة إلى الآخرين الذين يمكن أن يتحالف معهم الأميركيون، ومفادها أنّ الحلفاء المستقبليين يمكن استبدالهم عند تبدّل المصالح.
بولتون انتقد موقف إدارة أوباما “المتخاذل” أمام سحق النظام الإيراني للتظاهرات الشعبية المطالبة بالديموقراطية في إيران
أما الانسحاب من المنطقة الثانية (منطقة التنف)، فيسهّل انتقال الإمدادات الإيرانية بين العراق وسوريا، بدل اختيارها مسارات أطول وأصعب. وفي الحالتين، كانت ذريعة ترامب أنّه لا يريد قتل داعش من أجل الآخرين، وأنه على الدول العربية إرسال قواتها إلى سوريا، كما عليها دفع نفقات الجيش الأميركي في الميدان.
كما يلمّح بولتون إلى نقطة حساسة، وإن عَرَضاً. فعندما أسندت الولايات المتحدة إلى قوات حماية الشعب الكردي مهمّة محاربة داعش برياً، كانت كمن يستعين بمجموعة إرهابية لمقاتلة مجموعة إرهابية أخرى، باعتبار أنّ القوات الكردية في سوريا موالية لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وهو حزب محظور ومصنّف إرهابياً منذ زمن طويل حتى في الولايات المتحدة. لذلك كانت تركيا على حق نسبياً في موقفها الانتقادي من التحالف الأميركي الكردي في سوريا.
لكنّ جذور هذه الاستراتيجية مستمدة مما فعله أوباما، كما يقول بولتون. فأوباما استعان كذلك بإيران وميليشياتها لمحاربة داعش، أي بعبارة صريحة تستفاد من تلميح بولتون، أنّ إدارة أوباما استعانت بالإرهاب الشيعي كي يقاتل الإرهاب السني. وفي هذا المنحنى تحديداً، كان الاتفاق النووي مع إيران بأحد أوجهه العملية، يسهّل تزويد إيران بأموالها المجمّدة، مقابل مشاركتها وحلفائها في المعركة. لكنّ أوباما، كما يقول بولتون، فشل في رؤية أنّ إيران هي أشد خطراً، الآن وغداً. كما كان لإيران، بخلاف أوباما، نظرة استراتيجية أبعد. فمع قتالها داعش، هي والميليشيات الدائرة في فلكها، كانت تركّز النظر في المرحلة التي تلي داعش، عندما ينهزم هذا التنظيم. وفعلاً، نشرت إيران نفوذها في المنطقة بعد هزيمة داعش وانحسار سيطرة التنظيم جغرافياً، تاركة الولايات المتحدة مع مجموعة غير منتظمة من حلفائها!