وقف حسان دياب وِقفة المنتصر على مؤامرة خبيثة، وتحدّث بلهجة الواثق جداً من قدراته وإنجازاته. وكلّ من استمع بإنصات إليه يوم السبت الماضي بما يقارب العشرين دقيقة، خيّل إليه للحظات، وكأنه أمام رئيس دولة من جمهوريات الموز في أميركا اللاتينية، وهو يزفّ إلى المواطنين نبأ القضاء على الانقلاب العسكري الذي كان وشيكاً نجاحه. أما إلقاؤه الحماسي، فلربما استعاد الحنين إلى خُطب القادة التاريخيين بإلهاماتهم النافذة وسط الجماهير، طبعاً دون أن نسمع التصفيق الحارّ!
قال دياب: “هناك حملة مبرمجة تنظّمها جهات معروفة. الحكومة حقّقت الكثير لكنهم يريدون طمس الحقائق. باتت الحكومة تحصل على ثقة عالية من المواطنين، ما أزعج المراهنين على فشلها. محاولة الانقلاب سقطت. لم تنجح كلّ الاجتماعات السرية والعلنية والاتفاقات فوق الطاولة وتحتها وأوامر العمليات في الإطاحة بورشة اكتشاف الفساد. سنكشف الكثير قريباً بالوثائق والوقائع. هذا الهيكل سيسقط على رؤوس الذين يختبئون في زواياه. الإرادة الشعبيّة ستنتصر”.
إقرأ أيضاً: انقلاب على مين؟!
هذا القسم من الخطاب يكفي وحده، ليكون بيانَ انتصار على المؤامرة المزعومة، وكأنك في بلد مجاور تكاثرت فيه الانقلابات كالطحالب، منذ الاستقلال عن فرنسا. وكلّ انقلاب يلعن أخاه، ويتهم السلطة المخلوعة بالتآمر مع قوى داخلية وخارجية. لكن دياب في السلطة الآن، ولم نسمع أحداً يطالب بإسقاطه جدّياً. بل الأغرب من ذلك، أنه يعتبر من دعا أو سيدعو إلى إسقاطه – وهو مطلب مشروع في دولة ديموقراطية – بأنه ينفّذ انقلاباً!
كان الخطاب صادماً، من دون شكّ، حتى للعقلاء من حوله، ولا يوازيه أثراً سوى صدمة القرار المفاجئ بإرسال الشبّان لشتم الرموز الدينية وإحراق أرزاق الناس، والتعدّي جغرافياً على طوائف أخرى
ثم قال بكلّ ثقة: “لن نسمح بأن تضيع أموال الناس. لن نسمح أن تبقى الودائع مجرّد أرقام. أفقروا الدولة والمواطنين، وتصرّفوا بأموال الناس. لكن الدولة غير مفلسة”. فعن من كان يدافع هنا؟ ومن كان يتهم؟ هل كان يدافع عن خطة حكومته التي تريد شطب الديون السيادية، ومصادرة ودائع الناس، واستعمالها في شتى الإنفاقات بالضغط على مصرف لبنان تحت طائلة الإقالة، وإعلان إفلاس الدولة أثناء ذلك، أم كان يتهم رياض سلامة ومن يدعمه، وهو الذي يعلن دون ملل، أنّ الدولة غير مفلسة وما زال الأمل؟
كان الخطاب صادماً، من دون شكّ، حتى للعقلاء من حوله، ولا يوازيه أثراً سوى صدمة القرار المفاجئ بإرسال الشبّان لشتم الرموز الدينية وإحراق أرزاق الناس، والتعدّي جغرافياً على طوائف أخرى. كان خطاب حسان دياب إلى اللبنانيين على طرف نقيض من الواقع. كلّ الناس بلا استثناء، ما بين السبت الأسود في 6/6 والجمعة في 12/ 6، كانوا يعرفون تماماً ما جرى، إلا هو. دعوة إلى التظاهر لإحياء الثورة. مجموعات من الحراك تدعو إلى تطبيق القرار رقم 1559. اليسار تخلّى عن التظاهرة. اليمين مضى بها متبرئاً من نزع سلاح حزب الله الآن. وكان بارزاً في الإجمال الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة. وقبل اكتمال الحشد، انطلقت تظاهرة مضادة من مناطق معروفة ومن مسارات محدّدة. ومعروفة بقية القصة وتداعياتها، ووصلت بالتقارير الأمنية المفصّلة إلى الجهات المعنيّة. هذا ما حدث يوم السبت وما بعده، إلى مساء الجمعة، وهو لا يتضمّن أيّ إشارة ولو من أقصى الفضاء، بأنه ثمّة انقلاب على الحكومة، “لأنها تكتشف مغاور الفساد، وتدخل غرفه الواحدة تلو الأخرى”. ومن المؤكّد أنّ الهدف من شتم السيدة عائشة ذاك المساء الكئيب لم يكن منع حسان دياب ورفاقه من إكمال مهمّتهم المقدّسة في محاربة الفاسدين!
هل كان وراء محاولة الانقلاب على الحكومة على حدّ كلام دياب، الجهة السياسية التي فشلت في إسقاط رياض سلامة مثلاً
نصل إلى مساء الخميس، عندما انقلب الاتجاه فجأة نحو تأييد مطالب الحراك، بعد الشائعات على مواقع التواصل الاجتماعي عن ارتفاع الدولار إلى حدّ الـ7000 ليرة. وتلا التظاهرات المشتركة اعتداءات متلاحقة في وسط بيروت، متزامنة مع اعتداءات مماثلة في طرابلس. وسرت تكهّنات واسعة النطاق عن أن الهدف هو إسقاط حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالدرجة الأولى. فالدولار هو الذي ارتفع، بجنون، ورياض سلامة هو المسؤول مباشرة عن السياسة النقدية، ومن المفترض أن الإشاعة لها غرض معيّن، وهو إزاحة حاكم مصرف لبنان تحديداً، فما دخل حسان دياب وحكومته، وهو الذي كان اصطدم بسلامة واتهمه اتهامات غليظة قبل أسابيع.
فشلت الحملة على رياض سلامة، ولم تتفق الحكومة على إقالته. فانطلقت حملة منظّمة من الاعتداءات وسط بيروت ليلاً. فهل كانت هذه ردّاً على الحكومة، أو محاولة انقلاب عليها؟ بعبارة أخرى، هل كان وراء محاولة الانقلاب على الحكومة على حدّ كلام دياب، الجهة السياسية التي فشلت في إسقاط رياض سلامة مثلاً، مع أنها استطاعت تعديل موقفه لجهة موافقته على ضخّ الدولارات في السوق؟
ما زالت الصورة غامضة، فعن أيّ انقلاب تحدّث رئيس الحكومة في خطابه الرنّان إلى اللبنانيين؟ ولماذا سمّاه انقلاباً ولم يعتبره ثورة شعبية؟ الانقلاب يكون عادة من داخل النظام، فبمن كان يشكّ حسان دياب؟ هل كان يشكّ برعاة الحكومة وآباء تأليفها، حزب الله تحديداً؟ وماذا عن التيار الوطني الحر وقد أشار دياب إلى تعطيل متكرّر لنتائج امتحانات مجلس الخدمة المدنية لأسباب طائفية وحزبية؟ أما إن كان يقصد رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أو رموز الطبقة السياسية عموماً، فهل كان هذا تقدير الجهات الأمنية لأحداث الخميس والجمعة؟ ولماذا لم يكشف دياب الحقائق لو كانت عنده، ولماذا التلويح بكشفها في الوقت المناسب؟ وأيّ وقت سيكون أكثر تناسباً من هذا الوقت؟
أداء حسان دياب كان رفيعاً في سيناريو تمثيلي لواقع آخر في غير لبنان. فلعّله كان خطاباً موجّهاً إلى الدول المانحة وليس إلى اللبنانيين
لقد انتظر اللبنانيون بشغف وفضول مساء السبت الفائت كلمة الرئيس حسان دياب. منهم من توقّع أنه سيقوم بعمل جريء. فأحداث الأسبوع بلغت من الخطورة ما يستدعي أمراً من اثنين: إما الاستقالة بسبب العجز عن وقف المعتدين أولاً على المقدّسات الإسلامية والمسيحية ما هدّد مباشرة الأمن الوطني، والعجز عن ردع المعتدين ثانياً على الأملاك العامة والخاصة على نحوٍ مقصود بخلاف المرات السابقة من عمر الانتفاضة الشعبية. وإما الإعلان صراحة عن هوية الجهات السياسية التي تقف وراء هذه الأعمال الفتنوية والتخريبية البالغة الحساسية، وعن نية الحكومة إلقاء القبض على المخطّطين والمحرّضين والمنفذّين والمسهّلين. بل كان عليه أن يبرّر تساهل القوى الأمنية والعسكرية أمام الموجة الأخيرة من الاضطرابات، وبشكل غير معتاد، علماً أنّ الأجهزة الأمنية لم تتوقف يوماً في عهد هذه الحكومة عن ملاحقة قادة الحراك الشعبي لاتهامات أقلّ أهمية بكثير.
الحقّ يقال، إنّ أداء حسان دياب كان رفيعاً في سيناريو تمثيلي لواقع آخر في غير لبنان. فلعّله كان خطاباً موجّهاً إلى الدول المانحة وليس إلى اللبنانيين. خلاصته أنه يمثّل الثورة وهو حريص عليها. وأنه تعرّض لانقلاب معلوم لدى الخارج، فأحبطه. وعليه، فهو مستقلّ استقلالاً ناجزاً عمن يتهمونّه بأن شكّل الحكومة ورعاها.
باختصار: محاولة فاشلة.