جلستُ ربما للمرة المائة خلال يومي الخميس والجمعة (11-12/ 6- 2020) أمام شاشات التلفزة اللبنانية والعربية أتفرّج مثل مئات الآلاف من اللبنانيين والعرب على التظاهرات في ساحات بيروت وطرابلس على وجه الخصوص، أولاً لردة الفعل على الانفجارات الجديدة في أسعار الدولار، وثانياً اليوم الجمعة لردة الفعل على القرارات الحكومية العظيمة لمعالجة التأزم المتصاعد في أسعار الدولار، وفي حراك الشارع.
وأريد أن أستبق ما يمكن أن يحسبه القراء أوهاماً أو آمالاً كانت عندي مثلاً وخابت ..إلخ.
– ما كانت عندي أوهام أو آمال في حزب الله ونواياه وخططه وأعماله. فهو قال لنا منذ السبت الماضي في 6/6 إنه جاهزٌ لإثارة حربٍ أهلية إذا ذُكر سلاحُهُ. ثم قال لنا يومي الخميس والجمعة إنه يسيطر على الحِراك في الشارع أيضاً، وبالشرذمة والاختراق والتخريب. همومه كانت وما تزال كيف ينجو سلاحه وسطوته في لبنان وعليه، وكيف ينجو النظام السوري من الكوابيس النازلة به ومنه وعليه.
– وما كانت عندي أوهام أو آمال بهوية الحكومة القائمة ورئيسها ولا بأعمالها خلال الشهور الأربعة الماضية. فخطتهم التفاوضية مع صندوق النقد تفترض إفلاس الدولة وعجزها في الأمد المنظور عن سداد ديونها الخارجية والداخلية. وهم يقولون بدون تردّد إنهم يريدون مصادرة أموال المودعين في المصارف. والآن هم يهدّدون حاكم المصرف المركزي إمّا بالعزل أو بالعودة لضخّ الدولار في السوق بحجة خفض سعره وقضاء احتياجات المواطنين، مع معرفتهم اليقينية أنّ ثلاثة أرباع ما يضخّه المصرف المركزي يذهب إلى سورية الأسد عبر السوق السوداء.. والبيضاء. وهو ما يحصل أيضاً مع المازوت، الذي استورد منه لبنان 24 مليون طن بالسعر المدعوم، وذهب إلى سورية 16 مليون طن منها بالتهريب!
– وما عادت عندي أوهامٌ حول القوى الأمنية وبالجيش. والاستباق الثالث هذا هو الذي أكتب من أجله كلمتي هذه. فبالأمس، وأول من أمس عاد “المتظاهرون” العظام إلى إحراق البنوك والمؤسسات العامة والخاصة وفي بيروت وطرابلس فقط. وقد حدث مثل ذلك عشرات المرات من قبل. وكان الجيش والقوات الأمنية (وأعدادهم دائماً أكبر من أعداد المتظاهرين فضلاً عن التسلح والتدريب والاستعداد) كلّ تلك القوى الزاخرة والمهيبة تتدخّل دائماً بعد حدوث الحرائق، فتقبض على بعض الشبان أو لا تقبض. وإذا كان الهاجم على المؤسسات والناس من حزب الله أو حركة أمل، فإنها لا تتعرّض له ولو كان مسلّحاً ويطلق النار في الشوارع! وإلاّ فليخبرونا على كم مسلَّح قبضوا في ليلة 6/6 الليلاء، فعرضوهم على النيابة العامة أو صادروا سلاحهم المشهور على الأقلّ!
إقرأ أيضاً: أهل السُنّة والجماعة.. الكتلة التاريخية للتغيير
أنا أعرف أن قائد الجيش شجاع وطيب ونزيه وحساس، وأنا لا أقول هذا لأمسح ما سبق أن قلته أو أعتذر منه، فأنا سمعته كما سمعه سائر اللبنانيين يوم 4/6 فيما أظن يخاطب الشماليين وأمامه مئات العسكريين بإحدى ثكنات طرابلس أو عكار؛ كان يقول لهم: هذا الجيش جيشكم، ومعظم الحاضرين معي إخوتكم وأبناؤكم، وعيشكم عشيهم، فلماذا تخربون شوارعكم ومؤسساتكم؟ هذا التخريب لا علاقة له بحرية التعبير!
يا قائد الجيش هم خمسون لا يقلّون لا يزيدون من “سرايا المقاومة” وعملاء الأجهزة في عكار وطرابلس وبيروت وصيدا. وهذه طرابلس مثل بيروت وصيدا في الشهرين الأول والثاني لحراك التشرينين ما حصلت فيها ضربة كف، فما عدا مما بدا.
هذا كله صار عندي من البديهيات، ولذلك لا أقصد إلى توجيه رسائل لا لرئيس الجمهورية ولا لصهره، ولا لحسان دياب، ووزيراته. هي سلطةٌ مغتصِبة، وعملت على تفليس البلاد، وخنق المواطنين، وإسقاطها ممنوع. لذلك ما تردّدتُ دقيقتين قبل أيام في توقيع بيانٍ أرسله إليّ جماعةٌ من المثقفين يطلبون فيه استقالة رئيس الجمهورية، وإسقاط الحكومة، ونزع سلاح حزب الله.
الذين يخربون حقداً أو يأساً فيُعدُّون على أصابع اليدين، وهؤلاء الأفراد لا يتقدّمون إلاّ إذا قادهم المحترفون أو المختَرَقون الذين يُباعون ويشترون بدراهم معدودة، كما فعل إخوة يوسف بأخيهم
إنّ الذي يحرق القلب ويثير صراخ الغيظ على ما يحدث للمواطنين والوطن والدولة من هذه العصابات الفاسدة والمجرمة أنه يضاف إليه: التخريب المتعمّد الذي يجري على المرافق والمصارف والشوارع والممتلكات العامة والخاصة في بيروت وطرابلس، وعلى أيدي شبان المفروض أنهم من الثوار، ومن أبناء المدينتين! كنا ننزعج من سدّ الطرقات، وتعطيل مصالح المواطنين في شهور الثورة الأولى. أما في هذه الأيام، فهناك اتجاهٌ متعمّد ومن أجل تصفية صدقية الحراك نهائياً: للانتقام من البيئات الأهم للنهوض الإصلاحي، في بيروت وطرابلس. نحن نعرف منذ العام 2006 على الأقلّ أنّ الحزب والعونيين يريدون الانتقام من بيروت التي أعاد رفيق الحريري إعمارها ليعود وجهها الزاهي والزاهر، وحضارتها العريقة، وعيشها المشترك. ولذلك فرضوا على قلبها (ساحة الشهداء، وساحة رياض الصلح وعلى كتفها رئاسة الحكومة) حصاراً لأكثر من سنةٍ ونصف، ثم احتلها الحزب بقوة السلاح عام 2008. أما في هذه الأيام، فالمؤامرة أعمق وأحكم، فالصورة العامة أن أفواجاً جديدةً من “الثوار” سيطر عليهم اليأس لعدم القدرة على إسقاط العهد ورموزه وسط ضيق الأحوال المعيشية وفرائس الدولار، فمضوا لتدمير مدنهم وبلداتهم ومؤسساتهم ومصارفهم، ومن العبدة بأقصى الشمال وإلى طرابلس فبيروت وصيدا والبقاع. الحزب واليساريون العظام من حلفائه رابطوا أمام البنك المركزي، وجمعية المصارف. أما “ثوار” طرابلس وبيروت وصيدا الجدد وبعض القدامى، فاتجهوا للتخريب المباشر. ولو دقّقنا في المشهد أو المشاهد، لوجدنا أنّ المخرّبين في المدينتين أو الثلاث لا يزيد عددهم على الخمسين، وقد صارت وجوههم معروفة، وهم يأتون أحياناً من عكار إلى طرابلس أو إلى بيروت، وقد يتنقّلون بالعكس من صيدا والضاحية إلى بيروت وطرابلس. ولا شكّ أن القوات الأمنية ومخابرات الجيش تعرفهم جميعاً، وتستطيع إيداعهم في السجون، لكنها لا تفعل إلاّ في أحوالٍ نادرة. الاختراقات في كلّ مكان، والرعاع لا تنفرد بهم طائفة أو مدينة. إنما الفرق أنّ الرعاع المنظّمين معروفون ولهم مهمات كما شاهدنا ليلة السبت في 6/6 ويومي الخميس والجمعة في 11و12. أما الذين يتحرّكون في مدننا للتخريب فليس بينهم منظَّمون أو محترفون، وإنما تستخدمهم الأجهزة الخفية والحزبية، وهي التي تقود المخرّبين. أما الذين يخربون حقداً أو يأساً، فيُعدُّون على أصابع اليدين، وهؤلاء الأفراد لا يتقدّمون إلاّ إذا قادهم المحترفون أو المختَرَقون الذين يُباعون ويشترون بدراهم معدودة، كما فعل إخوة يوسف بأخيهم!
في طرابلس “جُنُّ” شيخان، الأول قبل ثلاثة أشهر، والثاني في ليلة 6/6 الليلاء. خطب الأول في المسجد وحثّ على التصدّي لمخرّبي الشوارع والمنازل، واستطاع جمع خمسين من أصحاب المحلات ورجال الأعمال، للتفكير في حماية المصالح والحرمات، فوجدوا بعد التفكير الطويل، كما يفكر أهل المدن، باللجوء إلى القوى الأمنية التي تصل دائماً متأخرة أو لا تصل. وفي النهاية انصرفوا عن الشيخ وتركوه بأيدي”الثوار” الزاعمين أنهم من أعداء المصارف والرأسمالية(!) وكلّ الناس يعرفون أن هؤلاء المساكين لا أحد منهم عنده حسابٌ في مصرف، أو يملك قوت يومه! وقد تجرأ الشيخ فسأل أحد الذين كانوا يفتخرون بتخريب مصرفين: كيف اقتنيتَ الأدوات الحادة التي تمكنتَ بها من اختراق الأبواب الفولاذية؟! أما الشيخ الثاني فقال على التويتر: إما أن يسلّم الجيش سلاحه للحزب أو العكس، أما نحن فيكون علينا أخيراً أن ننظّم حماية أنفسنا ومدننا أو نهلك ذُلاً وخراباً!
هذا العهد هو عهد انهيار الوطن والدولة. وهذا الحزب ومنذ العام 2005 لا يصلح شريكاً وطنياً. والشعاران الوحيدان اللذان يستحقان الالتفاف حولهما: لا للسلاح غير الشرعي، ولا للعهد وحكومته، ونعم للوطن والدولة والدستور
بعد ليل 6/6 شدَّ وجهاؤنا في بيروت عزائمهم وعقدوا اجتماعاً استثنائياً للمجلس الشرعي بدار الفتوى. وبدلاً من موقفٍ لا نحتاج لأكثر منه ومنذ زمنٍ طويل؛ صدر بيانٌ يستنكر التعرّض لأمّ المؤمنين، ويدعو لتجنّب الفتنة! يا جماعة أمّ المؤمنين عائشة قادت حملةً مخطئةً أو مُصيبةً بسبب مقتل أمير المؤمنين عثمان، أما أنتم فقد اجتيحت شوارعكم بالسلاح للمرة العاشرة أو الخامسة عشرة. المجتاحون هم الذين يبغون الفتنة، ولأنّ أحداً ما واجههم ولو بموقفٍ رافضٍ ومُدين ومُقاطع، فسيكرّرون ذلك للمرة المائة.
في ليل 6/6 البهيم ما رأيت “عائشة” إلاّ مرةً واحدةً وكانت وحيدةً وبدون سلاح على مقربة من جامع جمال عبد الناصر بالمزرعة، ناشرةً شعرها شأن العربيات الثكالى ملوّحةً بغطاء رأسها على مدى ذراعها، صارخةً بين النواح والاختناق: الله لا يوفّقك يا فلان، الله يلعنك يا عِلاّن!
أين مفتي الجمهورية ودار الفتوى، أين نواب بيروت، أين اتحاد عائلاتها، أين اتحاد جمعياتها، أين رؤساء حكوماتها الأربعة: لماذا لا نقول بصوتٍ واحدٍ لرئيس الحكومة الصفراوي الوجه والسريرة: أنت لا تمثّل منا أحداً، أنت لا تقوم بأدنى مهامّ منصبك، لا كلام لنا معك، ولا مع الوزراء السنة الآخرين في حكومتك التافهة!
هذا العهد هو عهد انهيار الوطن والدولة. وهذا الحزب ومنذ العام 2005 لا يصلح شريكاً وطنياً. والشعاران الوحيدان اللذان يستحقان الالتفاف حولهما: لا للسلاح غير الشرعي، ولا للعهد وحكومته، ونعم للوطن والدولة والدستور. وإذا كنا عاجزين عن رفع هذه المطالب الكبرى كالحراك في بداياته ونهاياته، فلا أقلّ من أن نحمي بإرادتنا وسواعدنا كرامة إنساننا وعمران مُدُننا وبلداتنا من تسلط المسلَّحين، وانتهازية المترئسين الفاسدين! ونحن قادرون على ذلك بالتأكيد، وبموقفٍ واحدٍ فقط، نحن ثلث الشعب اللبناني، ومع الوطنيين من كل الفئات نحن أكثر من نصف الشعب اللبناني، وواحسرتا على بيروت وطرابلس، وصيدا، وكفى بالأَجَل حارساً!