على طريقة “قَصقِص “جنرالات” ساويهم متراس” يحاول الوزير السابق جبران باسيل إقفال كلّ المنافذ أمام “عديله” نائب كسروان شامل روكز. روكز الناشط ضمن “الثورة” على الطاقم الحاكم، على خطّ “كودرة العسكر المتقاعد” تمهيداً لانطلاقة سياسية معارِضة تلاقي حراك الشارع.
ففي ردّ مباشر على “لقاءات ساحل علما” الساعية إلى لملمة صفوف العسكر المتقاعد إلى جانب روكز، أصدر رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل قبل أيام تعميماً بتعيين لجنة جديدة للعسكريين المتقاعدين، سبقتها لقاءات مع بعض الضباط منهم.
ليست المرّة الأولى التي تتألف لجنة للعسكريين انسجاماً مع النظام الداخلي لـ”التيار” الخارج أصلاً من رحم المؤسسة العسكرية.
لكن بالنظر إلى لائحة الأسماء المنضوية تحت سقف الحزب “البرتقالي” والمهام الموكلة اليها، تبرز نية باسيلية واضحة بالاستمرار في مواجهة روكز “على ملعبه”. إن لم يكن باللقاءات المضادّة التي تحصل في اللقلوق، فعبر لجنة من “القوة الضاربة” هبطت على جنرالاتها مهمّات أقلّ ما يقال إنّها مُحرِجة لضباط أفنوا أعمارهم تحت سقف المؤسسة العسكرية المفترض أنها على مسافة واحدة من الجميع، فيما “البخار” اجتاح رؤوس العديد منهم لينتهي بهم الأمر على “طاولة حزب باسيل”!
إقرأ أيضاً: “فجر الجمهورية”: روكز يطلق حزباً جديداً
لجنة تتوزّع على 11 عميداً وأربعة ضباط برتبة عقيد ومقدّم. معظم هؤلاء قدّموا استقالاتهم من الجيش لينالوا رتبتهم الحالية. وقد تمكّن باسيل من استمالة خمسة عمداء من دورة شامل روكز 83، هم: نزيه الحداري منسّق اللجنة، وجوزف صهيوني مساعد منسّق، وشربل أبو زيد أمين السرّ ومسؤول التعبئة العامة، وإبراهيم إبراهيم مسؤول النشاطات اللوجستية. والعميد الحداري كان مقرّباً جداً من روكز، وكان الأخير يردّد في مجالسه الخاصة أنّه سيختاره مديراً للمخابرات في حال تعيينه قائداً للجيش.
لكن الحداري ارتضى اليوم أن يكون في المقلب الآخر. قَفز من قارب قائد فوج المغاوير السابق إلى قارب وريث ميشال عون وبرتبة “منسّق لجنة” لم تولد إلا لنزع ورقة العسكر المتقاعد من يد روكز…
لمنسّق اللجنة مساعد منسّق. يشبه الأمر تماماً تركيبة “التيار” الحزبية. اختراع مواقع وألقاب لمن يرغب باسيل بتعيينه، مع غموض وتداخل في الصلاحيات وتركيب “مسؤول فوق رأس مسؤول” لا يأخذان قراراً إلا بالعودة الى مسؤول أرفع منهما، الذي بدوره يعود إلى رئيس الحزب ليأخذ “التعليمة”.
انضواء العسكر تحت أجنحة زعيم أو حزب ليس بالأمر الجديد. الجميع يدرك أن العديد من الضباط وأثناء خدمتهم العسكرية يتحوّلون إلى “ممثّلين” لمرجعياتهم
لن يكون ذلك غريباً طالما أن رئيس التيار نفسه لديه أربعة نواب لا حدود فاصلة بين عدد منهم: نائبة رئيس التيار للشؤون السياسية، ونائبة رئيس التيار للشؤون الإدارية، ونائب رئيس التيار لشؤون العمل الوطني، ونائب رئيس التيار لشؤون الشباب!
وعليه، للجنة العسكرية في “التيار البرتقالي” أيضاً مسؤول تعبئة عامة وآخر للنشاطات اللوجستية، ومسؤولة شؤون المرأة، ومسؤول تطويع، وعلاقات عامة، وإعلام، ومسؤول التنسيق مع هيئة الانضباط، ومسؤول التدريب، ومسؤول الشؤون الاجتماعية، ومسؤول التنسيق مع الضباط والعسكريين المتقاعدين في الأحزاب الأخرى… ومستشار!
هذا كثير على لجنة لا مهامّ لها سوى التزريك، إلا إذا قرّر باسيل إقامة مركز عسكري للتدريب وفتح باب “تلقّف” الضباط الخارجين من اليرزة لتطويعهم في الحزب، وإعلان التعبئة العامة في مناطق نفوذه، وتجنيد “عسكر روكز” لمصالحه، وزرع المخبرين في ساحل علما، أو تأسيس جهاز استعلامي وحماية خاصّ به. مع العلم أنّ مصادر مطلعة كشفت مفاتحة باسيل إحدى الشخصيات بمسألة “الجهاز الاستعلامي”!
انضواء العسكر تحت أجنحة زعيم أو حزب ليس بالأمر الجديد. الجميع يدرك أن العديد من الضباط وأثناء خدمتهم العسكرية يتحوّلون إلى “ممثّلين” لمرجعياتهم في المواقع الأمنية والعسكرية التي زكّتهم فيها، و”يشيلون ويحطّون” باسمها ويكتسبون نفوذاً يقدّمهم على رفاق السلاح بحكم الحماية السياسية.
خامة” الضباط الذين يقفون اليوم إلى جانب روكز أو يخوضون معاركهم من مواقع مستقلة أو لا يزالون في دائرة ميشال عون، مليئة سجلات خدمتهم بأكثر من تلك التي يجذبها باسيل
وهؤلاء تحديداً، مع آخرين لا يتسنّى لهم اكتساب “الامتياز” نفسه خلال الخدمة، يلتحقون مجدّداً بعد خلعهم البزّة المرقّطة بديوانيات الزعيم، إما بصفة مستشارين أو مساعدين، فيما يُؤثر جزء آخر اقتحام معترك السياسة بهدف التوزير أو اقتناص مقعد نيابي، أو الانزلاق إلى فخّ الشاشة. هل تسنّى لأحد حضور الحلقة النارية بين العميد أمين حطيط والعميد جورج الصغير مؤخراُ؟! بالتأكيد الكثير من الضباط صمّوا آذانهم أو تساءلوا حقيقةً عن “الألغام” التي تختزنها المؤسسة العسكرية أحياناً خلال سنوات الخدمة!
لكنّ الحالة “العونية” داخل الجيش، إن في الخدمة أو بعد التقاعد، اكتسبت منحى آخر بلغ أوج لمعانه وتأثيره مع وجود ميشال عون في المؤسسة العسكرية قائداً للواء الثامن، ثم قائداً للجيش، فرئيس حكومة انتقالية وصولاً إلى أيام المنفى ثم العودة التي كرّست افتراق العديد من “ضباط عون” والأعضاء “المؤسّسين” والمناضلين عن “القائد والمعلّم”، في لحظة صعود أسهم جبران باسيل في الرابية بشكل صاروخي امتداداً إلى القصر الجمهوري. أما “الصاروخ” إيّاه فلا يزال يحلّق صعوداً في فضاء البحث عن مهبط الرئاسة الآمن.
“الشحار” العسكري لا يظهر إلا حين تحضر المقارنة بين “ضباط عون” و”ضباط باسيل”. فروقات واسعة في القضية والانتماء والالتزام والحيثية وفي أسلوب تعاطي “القائد” مع ضباطه.
يمكن الجزم بأنّ “خامة” الضباط الذين يقفون اليوم إلى جانب روكز أو يخوضون معاركهم من مواقع مستقلة أو لا يزالون في دائرة ميشال عون، مليئة سجلات خدمتهم بأكثر من تلك التي يجذبها باسيل إلى ملعبه بهدف النكاية وخلق حلقة عسكرية يستحيل أن تتماهي مع “جنرالات” الحقبة العونية. ومن تسنّى له حضور قداس 13 تشرين العام الفائت الذي نظّمته المعارضة العونية لأمكن له رصد حضور عدد كبير من الجنرالات أصحاب الرمزية والثقل الضارب في الوجدان العوني.
هذا مع العلم أنّ حراك العسكر المتقاعد اكتسب مشروعية أكبر في دائرة روكز وخارجها مع انطلاقة معركة الحفاظ على حقوق العسكر منذ العام 2017، في وقت كان باسيل يضغط لسحب جزء من هذه المكتسبات تحت عنوان التقشف وسدّ عجز الخزينة!
مع ذلك، ثمّة “فوج” من الضباط المتقاعدين يرفض الانزلاق إلى معسكري باسيل أو روكز أو أيّ حزب آخر ويتعاطى حتّى بندّية مع رئيس الجمهورية. هؤلاء تحديداً كسبوا رتبهم بممارسة الوظيفة والاحتكاك بالأرض، وليس فقط بمجرّد تعليق الرتبة، ويتمسّكون بواقع أنّ الخروج من الخدمة يحرّر من الضغوط والضوابط العسكرية، وليس من القيود والعناوين الوطنية.
وهذه الفئة أيضاً متمسّكة بالدرس الأول من كتاب “التنشئة الوطنية”، الذي أعدّ في عهد فؤاد شهاب والقائم على معادلة “الحزبية والجندية لا يلتقيان”.
لذلك لا يستوعبون فكرة أن ضابطاً كان يحرّك ضمن قطعته عشرات ومئات العسكر يرضى الانخراط ضمن منظومة حزبية وتسلسل هرمي إداري يضمّ عناصر حزبية وشبابية صغيرة السنّ وقليلة الخبرة قد تكون متفلّتة من أيّ انضباط، ناهيك عن غياب الطرح الوطني العام في مقابل الطروحات الطائفية والحزبية.