ظلّ لبنان على مدى عقود طويلة، ذاك الابن القاصر المدلّل المتفلّت من كلّ مسؤولية أو ضوابط، وظلّ التعامل معه وكأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي احتياجات تفرضها تركيبته السياسية الهجينة وتنوّعه الاجتماعي الهشّ وجغرافيته العصيّة على العلاج أو الاجتثاث. فأخذ البعض يُفرط في دلاله تحت سقف تفهّم حالته ووضعيته ومصابه، فيما سلك الآخرون مسلكًا مغايرًا يستند إلى الإمساك بنقاط ضعفه وقوته، وتحويله إلى منصة متقدمة وناجعة لتعميق النفوذ الناعم وإطلاق العنان لسياسات السيطرة والتوسّع.
دفع لبنان الكبير منذ قيامته أثمانًا باهظة. بدأ الخوف يتعاظم في الأساس من فكرته المجرّدة، كواحة للديمقراطية والتنوّع والحريات المطلقة، في قلب منطقة مشتعلة تضجّ بالديكتاتوريات والانقلابات الدموية وسلطة الحزب الواحد وسياسات الرعب وكمّ الأفواه. ثم تحوّل هذا الخوف إلى عاصفة متنوعة المشارب، وتحوّل معها هذا البلد الصغير إلى ضحية مستدامة وإلى أرض خصبة للاقتتال والتذابح وتبادل الرسائل.
إقرأ أيضاً: حمد حسن … درسٌ فائق الأهمية لحزب الله وجمهوره
لم يترك اللبنانيون منذ استقلالهم قضيةً إلا وتنازعوا عليها، انطلاقًا من الهوية الوطنية والوحدة العربية والمدّ الشيوعي وحلف بغداد، مرورًا بالقضية الفلسطينية والحرب الباردة والاعتداءات الإسرائيلية والأطماع التوسعية، وصولاً إلى الثورة السورية وحتى البرنامج النووي الإيراني. كلّ قضية مرشّحة أن تتحوّل إلى حرب أهلية في هذا البلد الذي تتجمّع فيه تناقضات المنطقة من المضيق إلى المضيق، حتى بدا وكأنه كان وسيبقى قطعة جغرافية ملتهبة، وساحة أبدية لتصفية الحسابات وتسوية التوازنات وصراع الأمم.
خطورة هذا الاشتباك لا تقلّ أبدًا عن خطورة الحسم، حيث إنّ القبضة الإيرانية التي أُحكمت تمامًا على لبنان لم تُخرجه من عنق الزجاجة، بل زجّت به أكثر فأكثر في قلب نزاعات المنطقة، وحجبت عنه ذاك التوازن الذي كان يؤمّن استمراريته على النحو الذي عرفناه، وهذا بحدّ ذاته المدماك الأساس لكلّ الخراب الذي نشهده اليوم.
ندفع اليوم ثمن هذه الخطيئة بعد أن تخلّى عنّا الجميع وصرنا في مواجهة العالم برمّته، على اعتبار أنّنا منصّة متقدّمة للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهنا تمامًا تكمن المشكلة الحقيقية
لم يعش لبنان يومًا خارج الأزمات التي تتسم بعنفها وتداعياتها القاتلة والطاحنة، لكنه ظلّ على الدوام مُمسكًا بالشيء ونقيضه، ومحافظًا على مقوّمات دلاله وشهيته، باعتبارها سرّ قوته الكامنة في ضعفه. لكنّ النزعة السياسية الوليدة التي أطلّت برأسها لحظة اغتيال رفيق الحريري، ثم راحث تتعاظم على وقع الاغتيالات والتسويات والتنازلات، أرست معادلة جديدة تصدّرها حزب الله بلا منازع، واستحال بالتالي وجه لبنان الأقوى، والحاكم الفعلي لكلّ تركيبته السياسية ومفاصله الحيوية.
ندفع اليوم ثمن هذه الخطيئة بعد أن تخلّى عنّا الجميع وصرنا في مواجهة العالم برمّته، على اعتبار أنّنا منصّة متقدّمة للنفوذ الإيراني في المنطقة، وهنا تمامًا تكمن المشكلة الحقيقية. وهي مشكلة تتخذ طابعًا سياسيًا صرفًا، ولا علاقة لها على الإطلاق بكلّ المماحكات والتجاذبات الداخلية التي تتمحور حول الإدارة التقنية لشؤون الدولة، رغم الأخطاء المدمّرة التي أرتُكبت على مدى عقود، بمشاركة وتغطية مباشرة من غالبية القوى السياسية التي باتت تحاضر جميعها بالعفة والطهارة.
الآن دقّت ساعة الحقيقة، ودخل لبنان بأسره مرحلة الانهيار الشامل، فيما هامش القدرة على التخدير والمعالجات الموضعية بات ضيقًا وربما مستحيلاً. وكلّ المحاولات والاستعراضات السياسية والإعلامية لا تعدو كونها ذرًّا للرماد في العيون. فالأزمة التي بدأت لحظة تغوّل حزب الله على الدولة لن تنتهي إلا بتراجعه سياسياً أو كسر سياسته.
وهذا هو العنوان الوحيد في مقبل الأيام والسنوات.
الشيخ سامي خضرا: ضيف دائم على قناة المنار وإذاعة النور
[VIDEO]