حتّى في الإجراءات القانونية وما تدّعيه حكومة حسان دياب ورعاتها، بأنّها تريد التحقيق والتدقيق في سبيل مكافحة الهدر والفساد، تبرز الكيدية السياسية بشكل واضح وفاضح من خلال البنود المطروحة في جلسة مجلس الوزراء اليوم.
تصل الكيدية بأصحابها إلى خانة انحدارية لا يتوقّعها أعتى خصوم الحكومة. فيوم الهجوم العنيف من قبل رئيس الحكومة على حاكم مصرف لبنان، أظهر نفسه وحكومته ورئيس الجمهورية وكلّ الدولة عاجزة عن مواجهة موظف. هذا يعود إلى قصر النظر الكيدي، بأن حكومة غير قادرة على اتخاذ أيّ تدبير بحقّ موظف، فتلجأ إلى تهديده وابتزازه.
ما سرى على هذا المشهد، يسري على جدول أعمال جلسة الحكومة الثلاثاء، التي يدّعي رعاتها من خلاله أنّهم سيعملون على “الكشف عن مكامن الهدر والفساد ومكافحة الإثراء غير المشروع”. وكما وضع هؤلاء سلطة تنفيذية ورئاسة جمهورية في موقع العجز أمام موظف، يريدون أن يضعوا الوزراء في موقع المُراقَبين من قبل موظّفين لديهم، الذين سيتحوّلون إلى كَتَبة تقارير عند أجهزة أمنية.
إقرأ أيضاً: عون يجدّد الدولة البوليسية: لن تمرّ
شوائب كثيرة تعتري هذه التدابير، وملاحظات أكثر لا بدّ من تسجيلها عليها، وأهمها لجوء العهد القوي إليها للتهرّب من فتح كلّ الدفاتر القديمة، لا سيما العودة إلى حقبة الثمانينيات، وتحديداً عندما كان ميشال عون على رأس الحكومة العسكرية، وما اعترى تلك الحقبة من التباسات مالية كثيرة. لأنّه لا يمكن الكشف على الحسابات المصرفية إلا في آخر عشر سنوات، لأنّ المصارف غير قادرة على إعطاء كشوف حسابات سوى لعشر سنوات مضت. وبالتالي ما يُحكى عن كشف على الحسابات المصرفية منذ تاريخ انتهاء الحرب الأهلية هو كلام غير واقعي وهدفه ذرّ الرماد في العيون عن فترة ما قبل الخمس سنوات للمرحلة الأولى والتي لا مرحلة تليها.
بالنسبة إلى التدبير الأول المتعلّق بالتحقيق الضريبي الداخلي، فهو يرمي إلى إجراء تحقيق ضريبي مع متعهّدين، وتشوبه إشكالية تكليف المدير العام للمالية بالأمر، وتجاوز صلاحية وزير المالية التي ينصّ عليها الدستور. وهذه أحدثت مشكلة كبيرة مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، هدّد بسببها باستقالة وزرائه من الحكومة.
أما التدبير المتعلّق بالتحقيق الضريبي الخارجي، فخطورته أنّه يجيز قانوناً لوزير المالية، وفقاً للاتفاقيات الدولية الموقّعة، الاستحصال على كامل حسابات الشعب اللبناني المفتوحة خارج لبنان. وتشمل الحسابات المحوّلة والمفتوحة مباشرة، وأيّ حساب لأيّ لبناني عنده رقم ضريبي في لبنان.
التدبير الثالث، أي التحقيق المحاسبي، والذي يجيز تكليف مكتب تدقيق Audit، الإشكالية فيه أنّ أتعاب مكتب التدقيق يستوفيها من الأموال “المُحصّلة”، وهذا سيشجّع المدقّق على التجنّي بحقّ الشركات، لزيادة نسبة الأموال التي سيرغب في تحصيلها.
التدبير الرابع، وهو تطبيق المادة 4 من قانون الإثراء غير المشروع، يبدو تقديم تصاريح من السياسيين والموظفين لا قيمة له، إذا لم تُفتَح التصاريح وتُقارَن، وهذا يستوجب إقرار قانون، أو يتمّ بمعرض دعوى قضائية.
نصل إلى التدبير الخامس، الذي ينصّ على تطبيق المادة 12 من قانون الإثراء غير المشروع، وهذا تشوبه شوائب عديدة، منها:
أولاً: هل يجوز تكليف رجال الأمن إجراء استقصاءات على الرؤساء والوزراء والنواب؟ هذه لا تحصل إلا في الدول البوليسية التي أكل عليها الدهر وشرب. وهل عملياً يمكنهم الاستحصال على معلومات دقيقة دون الاستماع إلى المسؤولين؟ وكيف يمكن الركون إلى تقارير من وجهة نظر واحدة (مثلاً أحدهم باع عقاراً ولا يزال مسجّلاً على اسمه أو أحدهم ورث عقاراً وسُجّل على اسمه مؤخّراً دون دفع ثمنه، أو لديه أسهم في شركات متوقّفة عن العمل، أو ربما يملك أملاكاً وديونه في المصرف أكبر من أملاكه… إلخ.)
كما فشل لحّود وأفشل معه إدارات الدولة ستتكرّر التجربة وستفشل كسابقاتها . ومن يعشْ يَرَ
ثانياً: من أعطى صلاحية لمجلس الوزراء بإدانة الناس أو تبرئتهم؟ فهل يجوز أن يعلن مجلس الوزراء أسماء الأشخاص الذين لم تظهر عليهم “مظاهر الثراء” ويعتبرهم أبرياء عند الرأي العام؟ أي بمعنى آخر، إذا كان أحد المسؤولين مرتشياً وبخيلاً ولا تبدو عليه مظاهر الثراء، هل يصبح من عداد “الأوادم”، وآخر آدمي ومديون لكنّه يعيش حياة كريمة، هل يصبح مرتكباً بسبب “المظاهر”؟ أين المنطق في الاعتماد على “مظاهر”؟
ثالثًا: القرار لم يحدّد للأشخاص الذين تظهر عليهم “مظاهر الثراء” أمام أيّ جهة سيقومون بإثبات مداخيلهم قبل إحالتهم إلى القضاء؟ هل أمام رجال الأمن؟ أم أمام مجلس الوزراء؟ أم أمام لجنة مكلّفة من قبل رئيس الحكومة؟ ومن أعطاهم هذه الصلاحية؟ وهنا طبعاً لا يمكن العودة إلى العام 1990، عدا عن مرور “الزمن العشري”.
أما التدبير الثامن المتعلّق بتطبيق قانون “حماية كاشفي الفساد”، فهو ينصّ على مكتب الشكاوى، وهو أساساً موجود في التنظيم الإداري. لكن أُضيف إليه أنّ صلاحية المكتب أصبحت تشمل الوزراء، فهل يجوز أن يُحيل موظف أيّ شكوى على وزيره؟ وهل عملياً يمكن أن نجد موظفاً يُحيل شكوى على وزير وزارته؟ وهل يجوز أن نعطي مجموعة موظفين صلاحية التأكّد من جدّية شكوى على رؤسائهم؟
كلّ هذه التدابير تفتح الباب أمام عقلية “بوليسية” تعطي موظفين محدّدين، ورجال أمن، سيكونون تابعين للجهة “الممسكة” بمفاصل الدولة والحكومة، صلاحيات استنسابية، هُلامية، مزاجية، وبالتأكيد ستكون مسرحاً لـ”كيدية سياسية”، ووسيلة للابتزاز السياسي، ولتهديد من هم خارج “السلطة”، وملاحقتهم، كما حصل خلال حقبة إميل لحّود وفريقه الأمني – السياسي.
وكما فشل لحّود وأفشل معه إدارات الدولة، ستتكرّر التجربة وستفشل كسابقاتها. ومن يعشْ يَرَ.