منذ إطلاق سراح عامر الفاخوري سادت حالةٌ من الغضب أوساطَ السجناء الإسلاميين وأهاليهم بعد أن رأوا أنّ “العملاء يحظون بالامتيازات والحصانات”، بينما هم متروكون للتمييز وتجاهل التطبيق للوعود المزمنة بالعفو العام من حكومةٍ إلى أخرى ومن موسمٍ انتخابيّ إلى آخر، وفاقمَ الإحباط في صفوفهم إعلانُ وزيرة العدل ماري كلود نجم عن تحضير رئيس الجمهورية ميشال عون لعفوٍ خاص يجري العمل عليه وفق معايير تعتمدها الوزارة.
هذا الواقع، دفع بعددٍ من الأهالي إلى لقاء الشيخ بلال سعيد شعبان الأمين العام لـ”حركة التوحيد الإسلامي” والطلب منه التحرّك لإطلاق سراح أبنائهم كما تحرّك لإطلاق الشيخ كنعان ناجي منذ أسابيع. فكان ردّه بأن قضية الشيخ كنعان هي قضية فردية وخاصة تطلّب حلّها جهوداً مضنية، لكنّ قضية الموقوفين قضيةٌ عامة والسلطة غيرُ مهتمّة بها، وأنّهم إذا أرادوا الوصول إلى هدفهم فلا بدّ من حصول ثورة في السجون وفي الشارع لتشعر السلطةُ بالضغط الكافي الذي يضطرّها لإصدار العفو العام، مبدياً الاستعداد للتعاون مع الأهالي في كلّ ما يتطلّبه تحقيقُ إلى هذا الهدف.
وصلت هذه الأجواء إلى العدد الأوسع من الأهالي، فبدا لهم أنّ الوسيلة المُثلى هي تصعيدُ التحرّكات في الشارع وتشجيعُ أبنائهم على الانتفاض والثورة لتحريك الجمود السائد، فبدأت التحرّكاتُ في سجن القبة ليل الثلاثاء 7 نيسان 2020 ولم تلبث أن تحوّلت إلى صداماتٍ عنيفة استدعت تدخل الجيش اللبناني لضبط الأوضاع، ولمنع الأهالي من الاحتكاك المباشر على المدخل الرئيسي حيث حصلت اشتباكات امتدّت إلى الشوارع المحيطة بالسجن استمرّت ساعاتٍ عدّة قبل أن تنتهي مع هبوط الظلام، لتعلن مديرية التوجيه في الجيش اللبناني عن تعرّض دورية من الجيش للرشق بالحجارة وقطع الزجاج والمفرقعات من قبل أهالي بعض الموقوفين وعدد من الأشخاص الذين حاولوا اقتحام السجن ما أدّى إلى إصابة ضابط و12 عسكرياً بجروح.
إقرأ أيضاً: الفاخوري مشروعٌ (2/2): حزب الله سيُخرج إٍسلاميين “لتجنيدهم”
إرتفاع وتيرة الصدامات كان قد بدأ منذ 24 آذار الماضي عندما وقعت اشتباكاتٌ أمام سرايا طرابلس استُخدِمت خلالها المفرقعات النارية من قبل المحتجّين ولجأت القوى الأمنية إلى إطلاق النار، ليظهر هذا الأسلوب الجديد خلال الاحتجاجات أمام سجن القبّة من محاولة اقتحامه إلى إيقاع الإصابات في صفوف العسكريين والمحتجين.
أرفق أهالي الموقوفين تحركاتهم باعتصاماتٍ أمام منازل النواب فيصل كرامي ومحمد كبارة وسمير الجسر وسامي فتفت والمفتي مالك الشعار وبلدية طرابلس وأمام سجن رومية المركزي. وبالتزامن مع هذه الاحتجاجات، كان سجنُ زحلة يشهد اضطراباتٍ ومحاولة فرارٍ غير مسبوقة بحفر نفقٍ بطول ثلاثة أمتار كاد حافروه أن ينجحوا في إخراج عشرات السجناء إلى الشارع، بينما كان سجن راشيا يشهد فرار خمسة من الموقوفين وسط الخشية من انتقال الشرارة إلى سجن رومية إذا استمرّت وتيرة التحريض والاستغلال السياسي.
“لجنة العفو العام” في بعلبك دخلت بدورها على خطّ رفض العفو الخاص مهدّدة بالتصعيد بعد اجتماعها بوزير الصحة حسن حمد وعضو كتلة نواب “حزب الله” علي المقداد لتُذكّر بأن أيّ قانونٍ للعفو يجب أن يشمل إسقاط 37 ألف مذكرة توقيف بتهم زراعة المخدّرات والاتّجار بها والسلب والسرقة والخطف والقتل الصادرة بحقّ أعدادٍ من أبناء البقاع ومن العشائر بشكلٍ خاص.
يتداول محامون متابعون للملفّ معلوماتٍ نقلاً عن مصادرَ من داخل اللّجان التي درست ملفات القتل العمد أنه يوجد لدى الإسلاميين “16 ملف قتل عمد فقط”، أما عند باقي شرائح الموقوفين فهناك أكثر من “200 مذكرة توقيف بتهمة قتل عمد لعسكريين”، فلماذا لا يتمّ العمل على تصنيف الملفات بشكلٍ أكثر جدّية وعمقاً مما تفعله وزيرة العدل؟ وإذا أراد الموالون لـ”حزب الله” في الساحة السنية التصرّف بفاعليّة، فما الذي يمنعهم من تفكيك هذه الملفّات وإخضاعها للأولويات الإنسانية وفق متطلّبات الحال لمواجهة الوباء، وهم يعلمون أنّهم بهذه الطريقة يمكنهم فكّ أسر أغلبية السجناء والموقوفين الإسلاميين، تماماً على طريقة “حزب الله” الذي يتمسّك بالعفو العام، ولكنه يعمل على توسيع شمولية العفو الخاص وآلية تخفيف الاكتظاظ الجارية من قبل وزارة العدل.
تحيط مكابحُ كثيرة بالتحرّكات في الشارع، وتحديداً في البيئة الشيعية، فإذا حصل التصعيد بشكلٍ واسع النطاق، فهذا يعني وجود قرارٍ من “حزب الله” بالاعتراض على مشروع العفو الرئاسيّ الخاص
إذا كان للشيخ بلال شعبان وماهر حمود وغيرهما مكانةٌ لدى “حزب الله” كما جرى تظهيرُها في قضية الشيخ كنعان ناجي، فلماذا لا تتحوّل هذه القضية إلى نموذجٍ للعمل في ملف الموقوفين بشكل عام إذا كان السعيُ فيه “لوجه الله” وليس لقاء شروطٍ سياسية مُسبقة، على ما تتسرّب أنباء عن ابتزاز يتعرّض له بعض المشايخ وبقية الموقوفين الإسلاميين والتخيير بين حرّيتهم لقاء التعامل مع “حزب الله” أو المكوث في السجن مزيداً من السنين، تماماً كما حصل مع الشيخ كنعان ناجي. أساس السؤال سببه الغياب العملي لرئاسة الحكومة السابق منها واللاحق، فضلاً عن دار الإفتاء المشغولة باجتماعات تنسيقية للجمعيات البيروتية الخيرية من أصغرها الى أكبرها، حتى لا نقول من أفشلها الى أنجحها .
تحيط مكابحُ كثيرة بالتحرّكات في الشارع، وتحديداً في البيئة الشيعية، فإذا حصل التصعيد بشكلٍ واسع النطاق، فهذا يعني وجود قرارٍ من “حزب الله” بالاعتراض على مشروع العفو الرئاسيّ الخاص، وأنه يريد تعديلاتٍ وتغييرات في الأصل وفي التفاصيل ليدخل ملفُّ العفو العام مرحلةً جديدة من الصراعات والاستثمار، فيتقدّم دورُ المجموعات الموالية لـ”حزب الله” في الساحة السنية.
وبانتظار جلاء المرحلة، سيكون هناك الكثير من الوقود والحرائق على طريق التصعيد داخل السجون وخارجها ابتغاءً للعفو، وفي كلّ مرة يكون مجرّد سرابٍ سياسيّ يحسبه الظامئون إلى الحرية فجراً جديداً، لكنّه لا يلبث أن يظهر أنّه ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض.
الجولةُ الحالية بلا أفق سياسيّ، والواضح أنّ هناك من يدفع إلى صراعٍ وصدامٍ لا يحظى بالغطاء الحقيقيّ من قوى السلطة التي لم تـُقـِم الاعتبارَ لثورةٍ بحجم ثورةِ 17 تشرين، فهل ستقيم الاعتبارَ لصرخاتِ من تحبِسُهم في السجون وتحتجز ذويهم في المنازل بدواعي مكافحة “كورونا” بينما يحوم شبح الوباء على كامل مساحة الوطن غير مفرِّقٍ بين سجينٍ وطليق، وبين مسلمٍ ومسيحيّ، وبين “سياديّ” و”ممانع”، منتظراً وقوع الثغرات ليفتك بالجميع..