جون بولتون، من أبرز صقور المحافظين في الولايات المتحدة، ومن دعاة تغيير النظام في إيران وسوريا وفنزويلا وكوبا واليمن وكوريا الشمالية من البلدان التي يعتبرها مارقة. رئيس مؤسسة غايتستون، وهي مجموعة تفكير، وباحث سابق في مؤسسة أنتربرايز المرتبطة بالمحافظين الجدد. عمل كمحامٍ، ودبلوماسي، ومستشار سابق للأمن القومي. ما بين عامي 2001 و2005 عمل في إدارة الرئيس السابق جورج بوش الابن في ملف نزع السلاح. واستلم منصب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بين عامي 2005 و2006. وفي إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب عمل مستشاراً للأمن القومي بين عامي 2018 و2019، ثم استقال لخلافات في الرأي مع الرئيس. وفي أواخر حزيران العام الحالي، صدر له كتاب “الغرفة التي شهدت الأحداث“ مذكرات البيت الأبيض”The Room Where It Happened: A White House Memoir”، والذي تضمّن انتقادات لاذعة لسياسات ترامب، وكيفية إدارته قوة عظمى في مواجهة أزمات حادة.
“أساس” ينفرد بنشر مقتطفات من الكتاب على حلقات، بالاتفاق مع دار نشر “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر”، التي حصلت على حقوق الترجمة والنشر بالعربية.
إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (6): ترامب يقرر متى ينفصل عن نسائه.. وعن كوريا
لم يتردّد الرئيس دونالد ترامب في إلغاء اجتماع سنغافورة مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون. أملى علينا رسالة مرَّت عبر عدة نسخ لكنها خرجت في نهاية المطاف كما لو أنها رسالة ترامب حقاً. اتصلتُ بوزير خارجية سنغافورة، فيفيان بالاكريشنان Vivian Balakrishnan، لأخبره بالمستجدّات، وكان آنذاك يبدّل طائرته في دبي. تلقّى الخبر بتهذيب شديد، كما فعل قبل عدة أسابيع حين تلقى الخبر الأولي المتعلق بـ”فوز” سنغافورة بجائزة استضافة قمة ترامب – كيم. لكنّ الكوريين الجنوبيين لم يكونوا على ذلك القدر من اللطف. اتصل تشونغ معي في أواخر الفترة الصباحية ليقول إن إلغاءنا للاجتماع كان يمثِّل إحراجاً كبيراً للرئيس الكوري الجنوبي مون، بصدوره بعد عودته من واشنطن مباشرة. الرحلة التي أثارت آمالاً كبيرة في كوريا الجنوبية. طلبتُ من تشونغ قراءة ما قالته تشو سون هوي [رئيسة مكتب أميركا الشمالية في وزارة الخارجية الكورية الشمالية] بعناية عن نائب الرئيس الأميركي، لكن ذلك لم يفلح في تهدئته، ولم يفلح كذلك في تهدئة مون، مع أنّ تعليقاته كانت أقل حدّة من تعليقات تشونغ. أما ياتشي من اليابان فقال إنهم يشعرون بارتياح كبير بسبب إلغاء اجتماع سنغافورة. بينما كانت أحداث هذه الدراما تتكشَّف، قدَّمتْ كوريا الشمالية عرضاً مسرحياً صغيراً خاصاً بها عبر “إغلاق” موقع بونغي – ري بالطريقة المخادعة التي توقّعناها تماماً.
من المثير للدهشة أنّ العقوبات الاقتصادية – كما حدث في نقاشات سابقة مع كوريا الشمالية – كانت على ما يبدو ثانوية بالنسبة إليهم. لعلّ هذا يعني أنّ كوريا الشمالية كانت تخشى القوة العسكرية الأميركية أكثر من خشيتها من الضغط الاقتصادي
في ذلك المساء نفسه، بعد أقل من اثنتي عشرة ساعة على إعلان إلغاء اجتماع سنغافورة، انهار السقف. استغلَّ ترامب تصريحاً أقل عدائية بدرجة طفيفة أصدره مسؤول آخر في وزارة الخارجية الكورية الشمالية ليأمرنا بإعادة وضع اجتماع الثاني عشر من حزيران/ يونيو في موعده المقرّر. كان ذلك خطأً واضحاً من وجهة نظري، واعتراف صريح بأن ترامب كان متلهّفاً لعقد الاجتماع بأيّ ثمن، الأمر الذي أثار تقارير إعلامية عن “دبلوماسية المفاجآت” التي أزعجت أصدقاءنا في شتى بقاع العالم. بالطبع، لم تكن وسائل الإعلام تعلم بأننا كدنا أيضاً أن نلغي اجتماع سنغافورة في يوم الإثنين قبل تراجع ترامب. وبعد إعادة الاجتماع إلى جدول الأعمال، اتصل بومبيو مع كيم جونغ تشول، نظيره في المفاوضات الأميركية – الكورية الشمالية عندما كان مديراً للسي آي إي، وقرّر أن يأتي كيم هذا إلى نيويورك من أجل القيام بمزيد من التحضيرات. اتفقنا أنا وبومبيو وكيلي [كبير موظفي البيت الأبيض] على وجوب الإصرار على إصدار بيان من كيم جونغ أون نفسه، وليس الاعتماد على تصريحات من مسؤولين في وزارة الخارجية، وتأجيل اجتماع سنغافورة شهراً على سبيل الضمان. اتصلنا بترامب في الساعة الثامنة وخمسين دقيقة تقريباً لتقديم هذه التوصيات، لكنه لم يكن سيعمل بأيّ منها. بدلاً من ذلك، راح يتحدث بحماسة حول “رسالة ودّية إلى حدّ بعيد” (يقصد بذلك تصريح كوريا الشمالية) تلقيناها. لم يكن يريد “تعريض الزخم” الذي كنا نشهده آنذاك “للخطر”. شعرتُ برغبة في الردّ عليه: “أيّ زخم؟” لكنني كَبَتُّها. وواصل الحديث: “هذا نصر كبير. إذا عقدنا صفقة، فإنها ستكون من أعظم الصفقات في التاريخ. أريد أن أجعله [كيم] وكوريا الشمالية ناجحيْن”. كان الأمر محبطاً. بعدما كنا قد أوشكنا على الإفلات من الشرك.
العقوبات الاقتصادية..ثانوية
من المثير للدهشة أنّ العقوبات الاقتصادية – كما حدث في نقاشات سابقة مع كوريا الشمالية – كانت على ما يبدو ثانوية بالنسبة إليهم. لعلّ هذا يعني أنّ كوريا الشمالية كانت تخشى القوة العسكرية الأميركية أكثر من خشيتها من الضغط الاقتصادي. ومن المرجح أنّ ذلك كان يشير أيضاً إلى أنّ العقوبات لم تكن فعَّالة بقدر ما كنا نعتقد. قال كيلي إن كوريا الشمالية يمكن أن تخرج بأيّ انطباع تريده في ما يتعلّق بما يمكن أن يفعله ترامب، الذي قال إنه كان مستعداً لتقليص التدريبات العسكرية الأميركية – الكورية الجنوبية مكرّراً رأيه المتصل بكلفتها الباهظة وطبيعتها الاستفزازية. لربما كانت هذه النقطة الأسوأ لأن كوريا الشمالية سمعت حينئذ من القائد الأعلى للقوات المسلحة الأميركية أنّ إمكانياتنا العسكرية في شبه الجزيرة الكورية كانت مفتوحة للتفاوض، على الرغم من إنكاراتنا السابقة. كان هذا تنازلاً يمكن أن يغضب حتى مون جاي – إن ومناصري “سياسة الشمس المشرقة” الخاصة به، الذين كانوا يستندون في حساباتهم إلى الحضور الأميركي القوي. على أيّ حال، وعلى الرغم من سوء الوضع، إلا أنني أحسستُ بأننا كنا قادرين على إنزال ترامب من حافة الجرف.
جلسة مسامرة مع كيم
مع تقدّم أعمال القمة بين ترامب وكيم في 12 حزيران/ يونيو 2018، هنّأ كيم نفسه كما هنأ ترامب على كافة الإنجازات التي تمكنّا من تحقيقها في غضون ساعة واحدة فقط، فيما أكد ترامب أنه لم يكن من الممكن لأسلافه أن يحقّقوا هذه الإنجازات كلها. فانفجرا معاً بالضحك، ثم أشار ترامب إلى كيم قائلاً إنه الحلقة الأهم. فاعترف كيم بأنه يلتزم بأسلوبه الخاص في معالجة الأمور، ما يمكن أن يساعده على تعزيز أواصر التعاون مع ترامب. عاد ترامب ليتحدّث عن المناورات العسكرية منتقداً من جديد الجنرالات الذين نقض قراراتهم بغية إرضاء كيم. وضحك كيم من جديد، بينما راح ترامب يتذكّر كيف أطلق لستة أشهر خلت على كيم لقب “رجل الصواريخ الصغير”.. لقد ظنّ أنّ لقب “رجل الصواريخ” مديحٌ. استمر كيم في الضحك، فطلب منا ترامب في هذه المرحلة، عرض النسخة الكورية لفيلم “التجنيد” “recruitment”، الذي شاهده أعضاء وفد كوريا الشمالية باهتمام شديد على أجهزة الآي باد التي زوّدناهم بها. عند انتهاء الفيلم، سارع كلّ من كيم وترامب إلى التوقيع على البيان المشترك، إلا أنّ بضعة أخطاء في الترجمة أخّرت ذلك، فقررا مواصلة حديثهما ريثما تتمّ معالجة المسـألة. عاد كيم ليكرّر مدى سعادته بنجاح المفاوضات والتوصل إلى اتفاق على الالتزام بمقاربة “أفعال مقابل أفعال”. تبيّن لي أنني لم أسمع ترامب وهو يقدّم هذا التنازل، إلا أنّ تلك العبارات السحرية هي بالضبط ما كنت أحاول تجنّبه، في حين أنّ كيم كان يظنّ أنّ بإمكانه تمريرها. سأل كيم ما إذا كانت الخطوة التالية ستشمل العقوبات الأميركية، وأجابه ترامب بأنه منفتح على هذا الاحتمال ويريد التفكير فيه، مع الإشارة إلى أنّ المئات من العقوبات الجديدة كانت مهيأة للإعلان عنها. لم نكن بومبيو وأنا ندرك ما يقصده، وشعرنا وكأن ترامب يوزّع السكاكر على كوريا الشمالية. أعرب كيم عن تفاؤله بالتقدّم السريع، وتساءل عن السبب الذي منع أسلافهما من الإقدام على هذه الخطوة. فأجابه ترامب على الفور بأنهم كانوا أغبياء. فوافقه كيم الرأي مشدّداً على أنّ هذه الإنجازات تحتاج إلى أمثاله وأمثال ترامب.
دارت الأحاديث بين الحاضرين، ثم استدار ترامب نحوي وقال لي: “كان جون في السابق صقرًا، لكنه أصبح الآن حمامة. هل لديك ما تقوله بعد هذه المقدّمة؟”. لحسن الحظ، ضحك الجميع. فحاولت المحافظة على وجه خالٍ من التعابير وأجبت: “السبب الأساسي لانتخاب الرئيس هو أنه مختلف عن السياسيين الآخرين. إنه يحب تحريك الأشياء. أتطلع إلى زيارة بيونغ يانغ، سيكون ذلك مثيراً للاهتمام بالتأكيد”.
اعتقد كيم أنّ كلامي مضحك لسبب ما وقال: “سنرحّب بك بحرارة. قد تجد صعوبة في الإجابة عن سؤالي، لكن هل تعتقد أنه يمكنك الوثوق بي؟”.
كان سؤاله عبارة عن فخّ، أحد تلك الأسئلة التي كان يجيد طرحها. لم أستطع أن أقول الحقيقة ولا أن أكذب، فأجبت: “لقد اكتسب الرئيس منذ أن كان رجل أعمال نظرة ثاقبة مع الأشخاص. فإذا كان بإمكانه أن يثق بك، فسوف نحذو حذوه جميعاً”.
إقرأ أيضاً: بولتون يتذكر (5): السيّدة الأولى أجّلت تمزيق الاتفاق النووي
وأضاف ترامب أنني كنت على قناة “فوكس نيوز” طوال الوقت داعياً إلى الحرب مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، لكن الأمر كان مختلفًا كثيرًا من الداخل. راح الكوريون الشماليون يضحكون مقهقهين. قال كيم: “لقد سمعت كثيراً من الكلام السيّء عنّا على لسان السفير بولتون. علينا أن نأخذ صورة في نهاية اللقاء لأتمكن من أن أريها للمتشدّدين وأقول لهم إنّك لست سيئاً إلى هذا الحدّ”.
سألته عندئذٍ: “هل يمكنني الذهاب إلى مركز الأبحاث النووية في يونغبيون؟”. فتعالى الضحك أكثر فأكثر.
قرّر ترامب وكيم السير في حديقة الفندق. تلك النزهة لم تنتج سوى لقطات تلفزيونية لا نهاية لها، ولا شيء آخر. أخيراً، أقمنا مراسم التوقيع. كان الوفد الكوري الشمالي مثيراً جداً للإعجاب
قال ترامب: “أؤكّد لكم أنّ جون مؤمن جداً بهذا”، موضحاً إلى أيّ مدى يمكن تبسيط الحقيقة.
أضفت: “سيدي الرئيس، أنا سعيد لأنك تشاهد قناة فوكس نيوز”، وضحك الجميع. (أخبرني ترامب في رحلة العودة إلى واشنطن: “لقد قمت بإعادة تأهيلك لديهم”. هذا ما كنت أحتاجه بالضبط).
انتهى الغداء بعد قليل، في الثانية عشرة والنصف، لكن كان علينا الانتظار بعض الوقت لأنّ البيانات المشتركة لم تكن جاهزة بعد. قرّر ترامب وكيم السير في حديقة الفندق. تلك النزهة لم تنتج سوى لقطات تلفزيونية لا نهاية لها، ولا شيء آخر. أخيراً، أقمنا مراسم التوقيع. كان الوفد الكوري الشمالي مثيراً جداً للإعجاب.
*نشر في الأصل بلغته الإنكليزية بعنوان: THE ROOM WHERE IT HAPPENED.
Copyright (c) 2020 by John Bolton
حقوق النشر بالعربية (c) شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش. م. ل.
جميع الحقوق محفوظة (c)