شكّل موقف حزب الله من قضية إطلاق سراح العميل عامر الفاخوري بقرار من المحكمة العسكرية، وإخراجه من لبنان بالطريقة الأميركية الاستعراضية، مفاجأة للكثير من اللبنانيين وخصوصاً لحلفاء الحزب وأصدقائه، ما دفع الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله إلى تخصيص قسم كبير من خطابه الأخير لتوضيح ذلك والردّ على الأصدقاء والحلفاء قبل الخصوم والأعداء.
وقدّم السيد نصر الله مطالعة موسّعة في كيفية تعامل الحزب مع التطوّرات الداخلية والخارجية في ظلّ الظروف الراهنة والصعبة، ويمكن اختصار تلك المطالعة بوصفها نموذجاً واضحاً للواقعية السياسية التي يتعاطي فيها الحزب مع أهم المحطات السياسية والحزبية والوطنية في تاريخه، وهذه الواقعية هي التي ساهمت في تحقيق الحزب لأهدافه الاستراتيجية وأهمها تحرير لبنان من الإحتلال الصهيوني والتحوّل إلى قوّة عسكرية لها دور إقليمي في المنطقة.
إقرأ أيضاً: يقين حزب الله والشكّ في زمن الكورونا
فكيف تجلّت هذه الواقعيّة في تاريخ الحزب؟ وكيف تعامل الحزب مع أهم المحطات في تاريخه ما ساهم في تعاظم قوته وتحقيق الأهداف الاستراتيجية التي سعى إليها وعدم الغرق في صراعات لم يكن يريدها في وقت ما؟
لا يمكن في هذا المقال استعراض كل تاريخ الحزب وأدائه لأنّ ذلك يتطلّب دراسات مطوّلة، وقد سبق لي أن أعددت دراسة أكاديمية حول تغيّر خطاب حزب الله بين الثابت والمتغيّر، وهي تشرح ذلك بشكل مفصّل، ونشرت لاحقاً في كتاب بالعنوان نفسه، لكنّني سأتوقف عند بعض المحطات الأساسية في تاريخ الحزب:
الأولى: مجزرة ثكنة فتح الله
ثكنة فتح الله كانت إحدى المراكز العسكرية والأمنية لحزب الله في بيروت (منطقة البسطا الفوقا)، وفي 27 شباط 1987 عندما عادت القوات السورية إلى بيروت بعد صراعات عسكرية بين بعض الأحزاب اللبنانية، وبعد أن كانت سوريا خرجت من بيروت عام 1982 بسبب الاجتياح الإسرائيلي، نفّذت هذه القوات مجرزة قاسية راح ضحيتها عدد من شباب ومقاتلي حزب الله ليلة الجمعة، عندما كانوا يقرأون “دعاء كميل”. وذلك رداً على أداء الحزب في حرب المخيمات وبسبب بعض الاستفزازت التي قام بها مقاتلو الحزب ضد القوات السورية، وأدّت المجزرة إلى استشهاد 22 شاباً، كادت الأمور على إثرها أن تنزلق إلى صراع عسكري مفتوح بين الحزب وإيران من جهة وبين النظام السوري وقواته من جهة أخرى، لكن قيادة الحزب وبدعم من إيران، وبطلب من المرجع الراحل السيّد محمد حسين فضل الله استوعبت الوضع ولم تردّ على المجزرة، لأنّها اعتبرت أنّ أيّ صدام مع السوريين سيؤدي إلى معركة كبرى تضرب التحالف الإيراني – السوري وتقطع الطريق أمام امدادات الحزب والمقاومة.
الثانية: اتفاق الطائف ووقف الحرب اللبنانية
عندما حصل اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية عام 1989، ومن ثم وقف جولات الحرب اللبنانية، كان لدى الحزب ملاحظات جوهرية وكبيرة حول مضمون الاتفاق ونتائجه. وأصدر الحزب دراسة موثّقة تتضمن ملاحظاته على الاتفاق، وكان من الممكن للحزب أن يعارض الاتفاق ويمنع تنفيذه على الأرض لأنّه كان يمتلك قوى عسكرية وشعبية كبيرة، لكنه بدل ذلك أعلن الموافقة على الاتفاق والقبول بمندرجاته، ومن ثم المشاركة في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1992، رغم وجود معارضة قوية داخل الحزب. لكن لأولوية لقيادة الحزب كانت في الاستمرار بالمقاومة وعدم الدخول في صراع داخلي وعربي ودولي، كما حصل مع العماد ميشال عون وجزئياً مع القوات اللبنانية والدكتور سمير جعجع. ونجح الحزب في الحصول على كتلة نيابية كبيرة وتحوّل إلى قوة سياسية وشعبية، واستمر في العمل المقاوم، ولم يتم التعامل معه كميليشيا من ميلشيات الحرب.
الثالثة: مجزرة أيلول عام 1993
بعد توقيع اتفاق “أوسلو” بين “منظمة التحرير الفلسطينية” والكيان الصهيوني في 13 أيلول عام 1993، عارض الاتفاقَ حزبُ وحلفاؤه من أحزاب لبنانية وقوى فلسطينية. وتم اتخاذ قرار بتنفيذ تظاهرة من منطقة الكولا باتجاه مركز الأمم المتحدة في الوسط التجاري. لكن معارضة السلطة اللبنانية للتظاهرة أدت إلى تغيير مسارها، وتم الاتفاق على أن تنطلق من أمام مسجد الإمام المهدي في ساحة الغبيري باتجاه منطقة صبرا وشاتيلا. وبعد دقائق قليلة على انطلاقة المسيرة نحو جسر المطار، أطلق الجيش اللبناني النار على المتظاهرين وسقط ثلاثة عشر شهيداً وعشرات الجرحى، وحصل نقاش داخل قيادة الحزب حول كيفية الردّ على المجزرة. وكان هناك رأي يدعو إلى إعلان العصيان المدني ومواجهة الجيش اللبناني والأجهزة الامنية في كلّ مناطق الضاحية الجنوبية، في حين اتخذت القيادة قراراً بعدم الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع السلطة والجيش اللبناني والاكتفاء بالردّ السياسي والشعبي، لأنّ الحزب يريد التركيز على الاستمرار في المقاومة وعدم الغرق في صراع داخلي.
الرابعة: ما بعد حرب 2006 والقرار 1701
بعد حرب 2006 وصدور القرار 1701، وما أدى إليه من نتائج واقعية على دور الحزب وواقعه في الجنوب، اتخذت قيادة الحزب قراراً بعدم الانجرار إلى حرب جديدة مع العدو الصهيوني إلاّ إذا كانت رداً على عدوان جديد وواسع، ورغم كل الضربات التي تعرض لها الحزب من اغتيالات وعمليات أمنية وقصف أحياناً من قبل الجيش الإسرائيلي في لبنان وسوريا، ومنها اغتيال عدد من قادته الكبار، فقد كانت ردود الحزب العسكرية والأمنية محدودة ومضبوطة في آليات معيّنة ووفقاً لضوابط محدّدة، لمنع الانجرار إلى حرب واسعة، وذلك بانتظار اللحظة المناسبة التي قد تجد فيها القيادة أنّ هذا هو التوقيت المناسب لإشعال حرب مفتوحة، ويعود ذلك لأسباب عديدة داخلية وخارجية.
الخلاصة التاريخية:
هذه بعض المحطّات التي تؤكّد أنّ قيادة الحزب تتصرّف بواقعية وضمن ضوابط معيّنة وليس من خلال ردود فعل عشوائية أو انفعالية. وهناك محطات أخرى لا يمكن إيرادها في هذا المقال سواء على الصعد السياسية أو الأمنية أوالعسكرية، والحزب لا يقوم بأيّ عمل سياسي أو عسكري أو أمني إلاّ بعد دراسات مطوّلة وبناء على الكثير من المعطيات التفصيلية الداخلية الخارجية، والقاعدة الأساس حماية وجوده ودوره الاستراتيجي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن توصيف ما جرى من ردة فعل على قضية إطلاق العميل عامر فاخوري، شكلاً وأسلوباً. وهذا ما شرحه بالتفصيل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير، والذي شرح خلاله مواقف الحزب وآليات اتخاذ القرار داخله، وردّة فعله القاسية على بعض الأصدقاء والحلفاء الذين شكّكوا بمواقفه وأدائه. فحزب الله ليس منظمة ثورية عفوية أو مجرّد مجموعة عسكرية أو أمنية تعمل دون ضوابط، بل هو مشروع سياسي وشعبي واستراتيجي كبير لديه ضوابطه وآليات محدّدة لعمله. واليوم، فإنّ الأولوية عنده حماية لبنان ووجوده في لبنان لأنّ أيّ خلل في هذا الوجود سيعرّضه لنتائج خطيرة في هذه اللحظة السياسية والمرحلة الانتقالية في لبنان والمنطقة والعالم.
لذا علينا أن لا نتفاجأ بواقعية الحزب وأمينه العام السيد حسن نصر الله، وأن نقرأ خلف السطور حول ما يريده الحزب اليوم في لبنان والمنطقة.