كانت مفاجأة الخريف الماضي، فباتت نكسة الربيع الحالي. ما حدث يوم 6/6 (السبت الماضي)، لا يقلّ عن كونه نكسة للحراك / الانتفاضة / الثورة، إن لم يكن أكثر. وهو أمر لا ينبغي أن يُفرح أحداً حتّى “جمهور المقاومة”، التي أجهضت التظاهرة الحاشدة من قبل أن تبدأ، من خلال حملة الشائعات الممنهجة، وسحب حلفائها ممن شاركوا في بدايات الحراك العام الماضي. ولم تكتفِ بكلّ هذا، بل أرسلت أنصارها بشعاراتهم المذهبية والطائفية، كي يُجهزوا على “ثورة تشرين”. فليست الثورة من كشفت قناعها بعدائها لسلاح حزب الله، بل الحزب وأنصاره هم من كشفوا موقفهم الحقيقي من هذه “الثورة”.
في البدء، كان لا بدّ للثوار، أو قادتهم بتعبير أدقّ، من أن يدركوا بالخبرة المكتسبة والمطالعة المكثّفة لتجارب الشعوب والثورات، أن الحركة الشعبية لا تبدأ بقرار، ولا تقف بقرار، ولا تشتعل مرة أخرى، بقرار آخر. حدثٌ ما يُشعل الفتيل، فتنتشر الشرارة مثل السحر، وتكون البيئة جاهزة للاحتراق كالهشيم الجاف. فإن توقف الحراك الثوري، لأمر ما، بسبب إحباط، أو إجهاض، أو انسداد، أو ملل، فمن غير الممكن إشعال الفتيل بطريقة صناعية أو مصطنعة.
إقرأ أيضاً: متظاهرون لـ”أساس”: أخطأنا.. وعلينا توحيد شعارات الثورة
فكيف إذا كان الثوار عاجزين حتى ليلة 6 حزيران عن الاتفاق على شعار التظاهرة الحاشدة التي كان محسوباً لها أن تُشعل الفتيل مجدّداً؟ أيكون انتخابات نيابية مبكرة أم مرحلة انتقالية؟ وليس هذا اختلافاً تكتيكياً كما يحاولون التقليل من شأنه، بل هما استراتيجيتان مختلفتان تماماً.
فمن يريد الانتخابات النيابية المبكرة، يدرك بواقعيته أن لا مجال لإسقاط النظام من دون حرب أو انقلاب، والأمران غير متاحين، فيكون اللجوء إلى الانتخابات النيابية المبكرة من باب التغيير وإعادة تكوين السلطة جزئياً من ضمن آليات النظام الدستوري. فإن فازت الأحزاب والكتل نفسها، فمعنى هذا أنّ الأكثرية الشعبية ما زالت مع هذه الطبقة السياسية المشكوّ منها، مع أنّ الأرجح أن تغييراً نسبياً سيحدث في توازنات البرلمان مع تغيّر المزاج الشعبي، ولهذا نقاش آخر.
أما من يرفض الانتخابات النيابية المبكرة، فهو لا يريد هذا النظام بدستوره الحالي، بل يطمح بمرحلة انتقالية كما حدث في بعض بلدان الربيع العربي، أي تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان. ومعنى هذا، أنّه يحلم بانحياز الجيش إلى الثورة، فيعلّق الدستور، وتقوم لجنة مكلّفة من الحكم الانتقالي غير المنتخب بصياغة النظام على أسس مختلفة، ثم يجري استفتاء شعبي على الدستور الجديد، ثم الانتخابات النيابية وفق قانون جديد. وهذا جهل بالوقائع اللبنانية، أو تجاهل لها لأغراض تكتيكية معيّنة.
كلّ محاولة تجميع تنتهي إلى تفرّق أكبر وتناحر. كأنّ الجميع في برج بابل، فتبلبلت ألسنتهم وتاهت أفكارهم
وبين هذين الخيارين الاستراتيجيين، أطلّ “سلاح المقاومة” من جديد، لينشئ جدلاً أو ليجدّده، فزاد ذلك من تعقيد الموقف. فليس من يطالب بالانتخابات المبكرة يؤيد سلاحاً خارج نطاق الدولة، وليس بمقدور من يرفض الانتخابات المبكرة أن يغفل عن مآل هذا السلاح إذا بُدئ بتأسيس نظام جديد. وثمة من يؤيد القرار الدولي 1559، لكنّه يرى أنّ تطبيقه مهمّة المجتمع الدولي، أو أنّه ليس أولوية راهنة، كما يرى آخرون أنّ الإصلاح إما أن يكون كاملاً، سياسياً واقتصادياً، وإما لا يكون. فكيف نعالج الآثار السطحية للأزمة ونترك أسبابها العميقة ومنها عدم سيادة الدولة على كامل أراضيها؟
إن لبنان المحكوم بالاعتبارات المعروفة، بات يفتقر إلى عناصر الاستمرار الاقتصادي والاجتماعي عقب الإفلاس المالي الهائل. ولا سبيل لإنقاذه إلا عن طريقين: الأول هو الدعم العربي والدولي، وهذا له شروطه السياسية، ومنها ترتيب المنطقة لا سيما سوريا بعد حربها الطويلة، أو الانضمام إلى محور الممانعة والخضوع للعقوبات الدولية مع سوريا وإيران، ورفض الحلّ السياسي في سوريا، بل تكريس الواقع العسكري هناك وتعزيزه، من خلال تطبيع العلاقات مع لبنان والتعاون الوثيق ما بين النظامين الحليفين. لم يعد ممكناً التلهّي بمقولة “النأي بالنفس”. فلبنان مرتبط بما يجري في المنطقة أكثر من أيّ وقت آخر. والعقوبات الدولية على محور الممانعة، تصيب لبنان بشراراتها، وقد تأذّى منها وما زال، وهو ينحدر بسببها. وهذا يفرض على كلّ القوى السياسية والشعبية على اختلاف توجّهاتها، ومن ضمنها حزب الله، بل هو على رأسها، اجتراح وسائل الخروج من الكارثة، وتكون مقبولة وطنياً.
لقد بدأت الثورة لأسباب محلّية محضة، وتوجسّ منها حزب الله شرّاً، لأنها ترافقت مع ثورة شعبية شيعية في العراق ضدّ إيران وأحزابها وميليشياتها. وكان الثوار يأملون فعلاً، أو بعضهم في أقلّ تقدير، في أن ينحاز حزب الله إلى مطالبهم المشروعة للخلاص من الفساد والفاسدين. ثاروا في 17 تشرين حتى لا يقع فيهم معشار ما وقع بهم عقب ذلك التاريخ مما لا يوصف. والآن بعد “خراب البصرة”، وإفلاس الناس كلهم، نظرياً أو عملياً، فما هو المطلب التالي؟ هذا هو السؤال المحيّر بانتظار الخلاص من مكان ما.
أما المجموعات الثورية، فبدلاً من أن تستنطق الدروس طوال أشهر الركود والانحسار من بداية العام، إثر تكليف الدكتور حسان دياب بتشكيل الحكومة، ثم هجوم جائحة كورونا، فتخرج ببرنامج عملي ومرحلي، مع رؤية عامة جامعة لكلّ التوجهّات، إذا بها تزداد تباعداً وانحلالاً، فاخترقتها الأحزاب في العمق، وزرعت فيها أشواكها، فتحكّمت بمسارها، ونأت بها عن الجمهور. كانت اتجاهين أو أربعة أو خمسة، فأصبح لكلّ مجموعة لغة، ولكلٍّ منها برنامج. وكلّ محاولة تجميع تنتهي إلى تفرّق أكبر وتناحر. كأنّ الجميع في برج بابل، فتبلبلت ألسنتهم وتاهت أفكارهم.