قبل الدخول في مضامين المواقف التي أطلقها المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في رسالة عيد الفطر وما استجلبته من ردود، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ منصب “المفتي الجعفري الممتاز” ليس له خصوصية معيّنة على الصعيد الرسمي الشيعي في لبنان، فهو ليس عضواً في “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، وليس لديه ملاك خاص أو مؤسسات تابعة له. ومهمته كانت في تحديد مواعيد الإفطار والصيام ومتابعة بعض الأوقاف وهموم الناس. وهو ليس تابعاً لأيّ جهة سياسية أو حزبية، على الأقلّ بشكل رسمي، وإن كان والد المفتي الحالي، أي الشيخ عبد الأمير قبلان، الذي يتولّى رئاسة “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” حالياً، كان له دور إرشادي في حركة أمل، وكانت تربطه علاقة خاصة مع الإمام موسى الصدر والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين. أما المفتي الحالي فليس له أيّ دور أو موقع سياسي أو حزبي، بل يعبّر عن مواقفه الشخصية، إلا اذا كُلّف في يوم ما بتمثيل والده.
في العودة إلى المفتي قبلان، من حيث الشكل أُلحقت رسالته برسالتين: الأولى من والده، والثانية من نائب الرئيس، أي نائب والده، الشيخ علي الخطيب، ومواقف الإثنين لم تتبنَّ ما قاله الشيخ أحمد بشأن الميثاق أو لبنان، بل قدّما رؤية مغايرة وأكّدا التمسك بلبنان الميثاق والكيان والدولة والطائف.
إقرأ أيضاً: الراديكاليتان الشيعية والمسيحية ضدّ الميثاق الوطني والدستور
من حيث المضمون، وبعيداً عن الأهمية السياسية والمرجعية للرسالة، فهي تناولت جانبين: الأوّل ما له علاقة بالميثاق والكيان والصيغة اللبنانية، وقد تناقضت مع معظم مواقف القيادات الشيعية الرسمية والدينية. وحتّى حزب الله، الذي كان يتبنّى في بداية انطلاقته الدعوة إلى تغيير النظام ورفض “الكيان”، عاد وتراجع عن ذلك في وثيقته السياسية عام 2009، ودافع عن لبنان الكيان والنظام وطالب بدولة قوية وعادلة.
أما الجانب الثاني، أي الإعلان الصريح برفض الطائفية والمذهبية والفساد والمطالبة بإصلاح مؤسسات الدولة، فهي مواقف تجمع عليها أطراف سياسية وحزبية مختلفة، وتدخل ضمن روحية اتفاق الطائف، كما أنّ بعضها جزء من مطالب المجتمع الدولي والمؤسسات والجهات الدولية، وأيضاً مجموعات “17 تشرين”، ولا مشكلة فيها.
خطورة مواقف الشيخ أحمد قبلان أنّها جاءت متزامنة مع رفع البعض شعار الفيدرالية أو اللامركزية الموسّعة أو اللامركزية المالية، وصولاً إلى من يستعيد الدعوة إلى التقسيم وغير ذلك. وهي دعوات تتناقض مع اتفاق الطائف وليس لها محل من الإعراب أو التطبيق على الصعيد الواقعي والعملي لأسباب عديدة، مع الإشارة إلى أنّ اتفاق الطائف دعا لاعتماد اللامركزية الإدارية فقط، وليس المالية.
في المقابل فإنّ الردود على رسالة المفتي قبلان جاءت بمثابة ورقة اتهام لحزب الله بأنّه يسعى إلى تغيير النظام أو السيطرة عليه أو إقامة نظام سياسي ومالي واقتصادي جديد. وقد كان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله واضحاً في مواقفه الأخيرة خلال المقابلة التي أجرتها معه الزميلة بثينة عليّق عبر إذاعة “النور” التي تحدّث فيها بما يتعارض تماماً مع ما قاله “قبلان الابن”.
أولوية معظم الأطراف اللبنانية الصمود والصبر لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وانتظار ما سيحصل في المنطقة وفي العالم
على خلفية كلّ ذلك، فإن كلّ ما يثار من دعوات لإسقاط الميثاق أو تغيير النظام أو اعتماد الفيدرالية أو الدعوة للامركزية الموسّعة ليست إلا قنابل صوتية. والكلّ يعرف أنّ النظام السياسي في لبنان لا يمكن أن يتغيّر إلا في حال حصول حرب أهلية جديدة أو صراع عسكري داخلي كما حصل عام 1958 وعام 1975 و2008، وكلّها نزاعات أدّت إلى اتفاقات سياسية داخلية وخارجية. من بينها اتفاق عام 1958 برعاية الرئيس جمال عبد الناصر وفي ظلّ وجود عسكري أميركي عبر قوات المارينز. واتفاق الطائف برعاية سعودية وأميركية وسورية وعربية عام 1989، واتفاق الدوحة عام 2008 برعاية تركية قطرية فرنسية إيرانية وموافقة أميركية وسورية وسعودية. وليس وارداً في ذهن أحد أنّنا ذاهبون إلى حرب أهلية جديدة أو صراع عسكري لتغيير مسار الأمور. وأولوية معظم الأطراف اللبنانية الصمود والصبر لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وانتظار ما سيحصل في المنطقة وفي العالم. وأما تغيير النظام وإقامة نظام جديد، فليس مطروحاً على جدول الأعمال، لأنّ ذلك يتطلّب موافقة معظم الأطراف اللبنانية وقبول عربي وإقليمي ودولي. وهذا غير متوفّر حالياً.
يذهب أصحاب هذا المنطق إلى القول، وإن بشيء من المبالغة، إنّ “الحكومة الحالية بقواها المتحالفة لا تستطيع تغيير موظف من الدرجة الأولى إلا برضى داخلي وخارجي، فكيف ستغيّر النظام؟”.